الخبير السوري:
خلال أسبوع اتسم بالتقلبات الحادة، لفتت بورصة دمشق الأنظار بتسجيلها تداولات غير مسبوقة تجاوزت 47 مليار ليرة سورية، لتكشف عن نشاط استثنائي في بعض القطاعات يقابله تراجع جماعي في مؤشرات السوق. هذا التناقض أثار تساؤلات حول طبيعة الصفقات الضخمة وأثرها على حركة السوق، في وقت يواصل فيه المستثمرون البحث عن فرص آمنة وسط أجواء اقتصادية معقدة.
تداولات قياسية ومؤشرات حمراء
وفقاً للبيانات الرسمية، بلغ إجمالي قيمة التداولات في سوق دمشق للأوراق المالية نحو 47.1 مليار ليرة، توزعت على 1847 صفقة، بينها صفقتان ضخمتان تجاوزت قيمتهما 37 مليار ليرة. ورغم هذا النشاط اللافت، لم تنعكس السيولة على المؤشرات الرئيسية التي أغلقت جميعها باللون الأحمر، حيث خسر مؤشر DWX نحو 3.84 بالمئة من قيمته، وتراجع مؤشر DLX بنسبة 6.55 بالمئة، فيما هبط مؤشر DIX بنسبة 5.33 بالمئة. ويعكس هذا التناقض حالة من عدم الاتساق بين حجم الأموال المتداولة والأداء العام للسوق، الأمر الذي يثير تساؤلات حول طبيعة هذه الصفقات وأثرها الحقيقي في تحريك السوق.
الصناعات تتصدر
والبنوك تسيطر
برز القطاع الصناعي كأكثر القطاعات نشاطاً لناحية القيمة، مدفوعاً بالأداء الاستثنائي لسهم شركة “إسمنت البادية” الذي استحوذ منفرداً على أكثر من 39 مليار ليرة من إجمالي التداولات. هذا التركّز الكبير في سهم واحد يعكس، وفق خبراء، هشاشة في تنوع السيولة داخل السوق، حيث يعتمد النشاط الكلي على تحركات محدودة لا تعبّر بالضرورة عن حيوية واسعة.
في المقابل، حافظ قطاع البنوك على موقعه التقليدي كالأكثر نشاطاً من حيث عدد الصفقات، إذ بلغت قيمة التداول فيه نحو 7.6 مليار ليرة عبر أكثر من 1500 صفقة، وهو ما يعكس استمرار الثقة النسبية في الأسهم المصرفية رغم الضغوط على المؤشرات.
ثقة متنامية
وفرص استثمارية
يرى رجل الأعمال هادي غزلان، أن النشاط الملحوظ في سوق دمشق للأوراق المالية خلال الأسبوع الفائت يمثل مؤشراً إيجابياً على تنامي الثقة بالسوق، رغم التراجع الذي شهدته المؤشرات الرئيسية.
ويبين غزلان في تصريح لـ”المدن”، أن التداولات التي قاربت 47 مليار ليرة، لا سيما في القطاع الصناعي، تعكس اهتمام المستثمرين بالقطاعات التي تمتلك أساساً إنتاجياً حقيقياً، وهو ما يعززه الأداء الاستثنائي لأسهم الصناعات.
كذلك، يشير غزلان إلى أن حركة التداول المرتفعة، على الرغم من انخفاض مؤشرات DWX وDLX وDIX، توحي بأن السوق تمر بمرحلة إعادة تموضع طبيعية بعد موجة صعود سابقة.
ويضيف أن المستثمرين بحاجة إلى التركيز على الشركات ذات الأداء التشغيلي القوي والقيمة الحقيقية، بعيداً عن الانجرار وراء تقلبات قصيرة الأمد، مشدداً على أن الفرصة تكمن في المتابعة الهادئة واتخاذ القرار المدروس، “فالسوق بدأت تتحرك، والمؤشرات رغم تراجعها لا تلغي وجود فرص واعدة لمن يقرأ التحولات بدقة”، بحسب تعبيره.
خدمات خجولة
وتأمين مستقر
بالمقارنة مع الصناعي والمصرفي، جاء أداء قطاع الخدمات باهتاً، إذ لم تتجاوز قيمة تداولاته 52 مليون ليرة موزعة على 29 صفقة فقط، ما يشير إلى ضعف جاذبية هذا القطاع للمستثمرين في الوقت الراهن. أما قطاع التأمين، فسجل تداولات بلغت 40.9 مليون ليرة، وسط استقرار شبه كامل في أسعار الأسهم، وهو ما قد يُفهم كإشارة إلى ثبات نسبي لكنه في الوقت نفسه يعكس غياب الحراك الاستثماري.
تداولات صناعية
قياسية وخسائر جماعية
لم تُسجل أي حركة على أسهم شركتي الاتصالات “سيريتل” و”MTN”، كما بقيت سندات الخزينة المدرجة دون تداول رغم تنوع عوائدها. هذا الغياب يثير تساؤلات حول مدى جاذبية هذه الأدوات الاستثمارية، خصوصاً في ظل بحث المستثمرين عادة عن بدائل أكثر أماناً. وبحسب محللين، فإن تجمّد هذه القطاعات يعكس حالة فتور وثقة محدودة بالخيارات غير التقليدية داخل السوق.
سوق منقسمة
على صعيد الأسهم الفردية، تصدر البنك الوطني الإسلامي قائمة الرابحين يليه المصرف الدولي للتجارة والتمويل. في المقابل، كانت الخسارة الأبرز من نصيب سهم فرنسبنك – سورية، تلاه سهم “الأهلية لصناعة الزيوت النباتية”، ثم بنك الائتمان الأهلي، إضافة إلى بنك بيمو السعودي الفرنسي وبنك البركة – سورية. ويكشف هذا التباين عن سوق منقسمة بين أسهم قليلة تحقق مكاسب نسبية، وأخرى تتعرض لضغوط مستمرة.
إغلاقات وتعطيلات
من جانبه، يقول المستثمر في بورصة دمشق وعضو مجلس النهضة السورية فراس غريب في تصريح لـ”المدن”، “إن السوق عانى من أكثر من ستة أشهر من الإغلاق الكامل واستمرار تعطيل تداول بعض الأسهم دون مبررات واضحة، فيما يستمر إيقاف أسهم مهمة بذريعة تأخر البيانات، وهو أمر لم يكن معمولاً به سابقاً”. وبحسب غريب فوجئ المستثمرون بتصريح مجلس إدارة سيريتل استمرار وقف تداول السهم عمداً، رغم أن ذلك يُعدّ استباحة لحق التداول والملكية الخاصة بالمساهمين و”تعطيل غير أخلاقي”، بحسب تعبيره.
ويشير غريب إلى أن قرارات قديمة تُفعَّل فجأة مثل تعديل الحدود السعرية حتى عشرين ضعفاً دفعة واحدة، ما ينعكس سلباً على السوق، فيما يواجه المستثمرون صعوبات في سحب النقد عند البيع وغياب أي تسهيلات. مؤكداً أن حالة التفاؤل التي سبقت إعادة افتتاح السوق انحسرت، فلم تصدر التسهيلات المنشودة.
كذلك، يعرب غريب عن استغرابه الشديد من عدم تعديل القانون الذي يفرض أن تكون حصة الأجانب في البنوك الخاصة بين 49 و60 بالمئة مقابل ملكية الباقي للسوريين، وهو قانون يُفترض تعديله للسماح ببنوك مملوكة للسوريين بالكامل. مشدداً على أنه لا يحصل على أي إجابة إيجابية بهذا الخصوص.
وعن أداء السوق، يرى غريب أنه “لا يرقى للتوقعات”، إذ تُلغى اجتماعات الهيئات العامة فجأة أو تُشطب بنودها بالكامل باستثناء بند واحد كما يحدث في بعض شركات التأمين، في حين يلغي بنك “بيمو” اجتماعه من دون توضيحات، ويلغي بنك الائتمان الأهلي اجتماعه قبل 24 ساعة فقط من موعده، رغم وجوب الإعلان قبل 15 يوماً على الأقل، ما يعكس حالة اضطراب ومفاجآت مقلقة.
ويضيف غريب أن الجهات الرقابية لا تُقدّم تطمينات للمستثمرين، موضحاً أن التداولات العادية في الجلسة الأخيرة لا تتجاوز ملياراً و150 مليون ليرة، بينما الأرقام الكبيرة تأتي نتيجة صفقات ضخمة تبلغ نحو 37 مليار ليرة، وهي في حقيقتها نقل ملكيات بين مستثمرين تُسجَّل شكلياً للإفصاح ولا تؤثر على أسعار الأسهم، لأنها تجري خارج القنوات المصرفية والسوقية التقليدية، بخلاف التداولات اليومية التي تحددها أسعار التنفيذ الفعلية.
سيولة شكلية وفجوة ثقة
بمجمل الصورة، تبدو سوق دمشق للأوراق المالية وكأنها تعيش حالة من “السيولة الانتقائية”، حيث تتركز أحجام التداول في صفقات محددة، بينما يظل الأداء العام ضعيفاً وغير متوازن. ورغم أن تداولات الأسبوع تجاوزت 47 مليار ليرة، إلا أن هذا لم يمنع المؤشرات من الهبوط بشكل جماعي، ما يسلط الضوء على الفجوة بين النشاط الشكلي للسوق وبين قوتها الفعلية. ويرى محللون أن استمرار هذا النمط قد يحد من قدرة البورصة على استقطاب استثمارات جديدة، خصوصاً في ظل غياب التنوع وتراجع ثقة المستثمرين ببعض القطاعات الرئيسية.