بعد مرور أسابيع على تصريح حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر حصرية حول ما سماه “حماية المستهلك مالياً”، لا يزال هذا الطرح مثار جدل واسع في الأوساط الأكاديمية والمصرفية السورية، ويفتح الباب أمام قراءات متباينة تتراوح بين التفاؤل المشوب بالحذر، والتشكيك في ملاءمة التوقيت والظروف.
فالحديث عن حماية المستهلك المالي، على أهميته ومضمونه الإيجابي، بدا للكثيرين أقرب إلى تبشير متسرع في بيئة اقتصادية مربكة، لا تزال تئن تحت وطأة شح السيولة، وضعف الخدمات المصرفية، وغياب الثقة بين المودع والقطاع المالي.
ورغم أنّ وسائل الإعلام تلقّفت الفكرة من زاويتها الإيجابية، إلا أنّ المتابعين للشأن المالي والاقتصادي يرون أن نجاح مثل هذا التوجّه يحتاج إلى أرضية أكثر نضجاً وواقعية قبل تحويله إلى عنوان إصلاحي جديد.
تفاؤل حذر
يدور التحفظ العام في فلك تساؤل عن السيولة المالية المحتبسة والإيداعات شبه المجمدة، وسبب الدفع بفكرة حماية المستهلك في الخدمات المالية في وقت لا يستطيع من أودع عشرات المليارات السحب إلا نذراً يسيراً من إيداعاته في اليوم، أي بالكاد يكفيه كمصروف شخصي لا أسري.
وعلى المقلب الآخر ثمة من يتفاءلون – لو بحذر – بما أفصح عنه الحاكم وخصوصاً إشارته إلى مديرية متخصصة بحماية المستهلك في الخدمات المالية، وهو تفاؤل مبني على أمل أن تتكفل المديرية العتيدة بمأسسة حل مشكلة السيولة وإيفاء المودعين حقوقهم، خصوصاً وأن حصرية خبير عتيق لديه الدراية الكافية بأن الحماية المالية تعني في المحصلة ضمان حصول مستهلكي الخدمات المالية على حقوقهم من حيث العدالة والشفافية وحقهم عند التظلم.
“بريستيج” عالمي
الواقع أن فكرة حماية المستهلك المالي لم تعد ترفاً على الإطلاق، بل باتت جزءاً بالغ الأهمية في منظومات العمل المالي بتفرعاته المصرفية والتأمينية وكامل فروع القطاع المالي.
تعود الفكرة إلى ما بعد الأزمة المالية التي رتبتها أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأميركية عام 2007-2008 وتشظياتها إلى معظم اقتصادات العالم.
وتم إنشاء ما سمي “مكتب الحماية المالية للمستهلك”، وهو وكالة تابعة للحكومة الأميركية مسؤولة عن حماية المستهلك في القطاع المالي، يشمل اختصاصها المصارف والاتحادات الائتمانية وشركات الأوراق المالية وعمليات خدمة الرهن العقاري وخدمات الإغاثة من الرهن ومحصٌلي الديون والشركات المالية الأخرى.
تمت الموافقة على إنشاء المكتب بموجب قانون دود-فرانك لإصلاح وول ستريت وحماية المستهلك، وكان إقراره في عام 2010 بمثابة استجابة تشريعية للأزمة المالية العالمية و”الركود العظيم” الذي تلاها.
ويبدو من خلال ما سبق أن الفكرة وتطبيقاتها ترمي إلى حماية المصارف والاقتصاد وتقليل مخاطر القطاع المالي، وإرساء آليات تشغيلية محكمة، تم التوافق على تسميتها حماية المستهلك المالي، لكن الغاية منها درء مجمل سلسلة المخاطر التي تحيق دوماً بالبنوك والمؤسسات المالية.
وتدريجياً أمسى التوجه نحو توطين هياكل حماية المستهلك المالي في كافة دول العالم شبه إلزامي لتوليد الثقة الكفيلة بالتشبيك مع الاقتصادات العالمية، كما سلسلة اشتراطات بازل.
من هنا يبدو الإجراء السوري المزمع لازماً وضرورياً في سياق تصحيح وتصويب أداء مؤسسات القطاع المالي المتداعية كما باقي هياكل الاقتصاد الأخرى.
تبشير متسرّع
عموماً، ثمة مجموعة أسئلة تدور في ذهن المواطن السوري في زحمة القلق الاقتصادي الذي يعيشه ربما تبدأ من مصادر الدخل لكن حتماً لا تنتهي مع الكثير من ضغوطات مختلفة كتقلبات سعر الصرف والالتزامات الحياتية وغيرها الكثير.
لكن السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه أمام هذا القلق، وفي ظل الاستعجال بالتبشير بالمستقبل، حسب الخبير المصرفي والمالي أنس الفيومي، هو هل يحتاج المواطن لإبر مخدرة كما كان يحدث سابقاً، والتي كان معظمها من العيار الثقيل دون فائدة بعد أن ينتهي مفعولها، أم أنه يحتاج إلى وقائع وأمور يتلمس ملامحها؟
يؤكد الفيومي أن المواطن لا يحتاج لهذا النوع من التخدير وهو إلى اليوم لا يزال منتشياً بزوال نظام بائد ومتفائل بالقادم، بالتالي لن يحتاج أن يسمع كل فترة عن مصطلح جديد أو وعد بعيد.
ويستعيد الخبير المالي سيرة ما حدث عندما ضجت وسائل الإعلام بسكن لائق للشباب السوري وفق أحكام قانون التطوير العقاري، لننتقل اليوم إلى مفهوم لم يألفه المواطن سابقاً مثل “حماية المستهلك مالياً” بما أن مفهوم الحماية قد يتعدى ذلك إلى أمور أخرى أكثر أهمية.
بيئة مرتبكة
ويغمز الخبير الفيومي إلى البيئة الراهنة غير المناسبة للإعلان عن نيات “ثقيلة”، ويرى في حديث لـ”المدن” أن المشهد المرتكس لعمل المصارف العامة وحتى الخاصة، يبدأ من بطء الخدمات وانقطاع الشبكة إلى حبس السيولة وعدم وجود قروض واعتمادات وغيرها من المنتجات المصرفية.
ويتساءل كيف يمكن الحفاظ على حق المستهلك المالي وسعر الصرف ـ كأقرب مثال ـ يعاني من فجوة بين سعره الرسمي المعلن وسعره في المصارف ومكاتب الصرافة دون التطرق لمن لا يزال يقدم هذه الخدمة على الرصيف، حيث لا حماية قانونية ولا شرعية في حال وجود مشكلة، هذا مثال بسيط جداً لمفهوم حماية المستهلك مالياً.
ضبابيّة
أمام هذه المشهدية البسيطة قد لا يبدو المصطلح الذي استخدمه الحاكم دقيقاً ـ من وجهة نظر الخبير المصرفي ـ خصوصاً في هذه المرحلة، فأي من المصارف اليوم يمكن له الإفصاح بشفافية ووضوح عن عملياته المصرفية التي يستطيع أن يقدمها وهو مقيد بحجم السيولة وطريقة التصرف بها وتعليمات المركزي؟
ومما لا شك فيه أن ذيول وآثار الفترة الماضية ترخي ظلالها على إمكانية تعامل المواطن مع المصارف والخوف على أمواله رغم وعد المركزي أن الإيداعات بعد 7 أيار الماضي تعامل معاملة خاصة، وفي حال وجود شكوى ما المدة لحلها مع أن مفهوم حماية المستهلك مالياً تقتضي الحل الفوري.
ويعوّل الفيومي على أهمية على عودة ثقة المواطن بالتعامل المصرفي وفرصة البيوع العقارية والتحويلات المالية وربما طرح الليرة السورية الجديدة كأمور مهمة يجب على المركزي استغلالها لعودة الروح للمصارف.
متطلّبات
التوجه الجديد والنيات الطيبة تحتاج لبيئة مناسبة لطرح فكرة من طراز حماية المستهلك مالياً، فالفكرة برأي الفيومي تحتاج لمقومات وشروط مثل أسعار الفائدة والعمولات بشكل مفصل وواضح وتفاصيل المنتجات التي يطرحها المصرف، وأن يقوم المصرف بدور المرشد المالي لعملائه في حال وجود مخاطر محتملة، حتى إيضاح تفاصيل العقد الموقع مع العميل، فبعض المصارف الخاصة يتجاوز حجم العقد الموقع مع الزبون العشر صفحات، وليس له الحق في الحصول على نسخة منه، وقد يجد بعض الزبائن حرجاً في قراءته أمام الموظف المختص، وإن قرأه لن يستطيع فهم المصطلحات الواردة فيه. عدا عن الحقوق الأخرى كحق الحماية بأن يتم إعلام الزبون بتغيير سعر الفائدة الدائنة والمدينة قبل مدة ليتيح له اختيار المناسب. كما أن البرمجيات الحالية لدى بعض المصارف العامة لا تحمي البيانات الشخصية للعملاء لديها، فكيف إذا وصلنا إلى موضوع المديونيات وكيف تضاعف بعضها أضعاف مضاعفة لبعض المقترضين، هذا دون التطرق لموضوع بيع عقارات الزبون الضامنة دون علمهم، فأين الحماية.
فحماية المستهلك مالياً تحتاج إلى بيئة عمل مناسبة تتراوح بين جودة خدمات وتكاليف مناسبة ووضوح تام للمستهلك وبرامج توضيحية وتثقيفية فهل نصل إلى هذه المرحلة أم أن إطلاق الوعود يعتبر أمراً كافياً.
سباقات على
صهوة الميديا
إن تزاحم عرض واستعراض النيّات الطيبة يشتت بوصلة الإصلاح، كما يضيع رشد المواطن السوري الذي يحاول التقاط ملامح التغييرالبنيوي وتجاوز ارتكاسات الماضي التي أثقلت كاهله.
فالواضح أن ثمة سباق غير معلن بين بعض المسؤولين التنفيذيين في سوريا – الاقتصاديين بالدرجة الأولى – لما يشبه ” التفكير بصوت عالٍ” على المنصات ووسائل التواصل، دون اكتراث إلى أن التفكير بصوت عالٍ يمكن أن يكون في اجتماعات عمل داخل مكاتب المؤسسات والوزارات لا بالاتكال على وسائل التواصل، لأن كل كلمة محسوبة وكل فكرة تُطرح يتلقفها المواطن المكتوي بلفح الماضي بجديّة مفرطة، وهنا يُخشى من مفاعيل عكسيّة لمحاولات الدفع والشدّ المعنوي.