لا ينسى سوريو تركيا ما حيوا وقت طلبت منهم دائرة الطابو، قبل ثلاثة أعوام، التوقيع على تنازل عن الملكية لخزينة الدولة التركية خلال نقل ملكيتهم “إن تطلب الأمر”، أي بحال سحب الجنسية الاستثنائية أو عدم وجود وريث تركي بحال الوفاة، قبل أن يسوّى الأمر بالطلب من السوريين الأتراك الحصول على موافقة خطية من مديرية شؤون الأجانب لإتمام عملية البيع والشراء لعقاراتهم. قبل أن يلغى القراران باعتبارهما مخالفين للقانون التركي الذي يساوي بالمواطنة بين المجنسين بالميلاد ومكتسبي الجنسية.
ولن ينسى السوري التركي ذلك الفعل، أو ردة فعل “دائرة الطابو” إن شئتم، لأنها، ببساطة أو بجرة قلم، تعيده لقوانين منع تملّك السوريين بتركيا التي تعود إلى القرن الماضي، لكنها سارية المفعول حتى اليوم، ولم تسقط عام 2012، وقت ألغت تركيا مبدأ التعامل بالمثل وفتحت باب تملك العقارات أمام معظم الدول، حتى تلك التي تمنع تملك الأتراك على أراضيها، وبقي السوريون إلى جانب أربع جنسيات أخرى (الكوبية، الكورية الشمالية، القبرصية الجنوبية، الأرمينية)، مستثنين من حق التملك العقاري على الأراضي التركية.
وما قيل عن منع تملّك السوري بتركيا، ينسحب حرفياً على التركي بسورية، فهو ممنوع من الملكية، بل ثمة رعب ومخاوف لدى السوريين مذ فعّلت الدولة السورية قانون “إصلاح الأراضي” في مطلع ستينيات القرن المنصرم، ونقلت ملكية العقارات العائدة للمواطنين الأتراك بسورية إلى الدولة.
قصارى القول: قضية منع التملك المتبادل قديمة بين سورية وتركيا، وتعود قوانينها إلى الخلاف الذي حصل بين الحكومة التركية عام 1927 وحكومة الانتداب الفرنسي في سورية، حيث تم استفتاء المواطنين في لواء إسكندرون، قبل ضمه إلى ولاية هاتاي التركية عام 1938، فأقرت سورية وهي تحت الانتداب الفرنسي، حجز ممتلكات الأتراك على أراضيها وعدم السماح لهم بحق التصرف، رغم المحاولات التركية للتسوية واسترداد الملكيات، حتى التي بدمشق وتعود لزمن الدولة العثمانية، ما دفع الحكومة التركية لتطبيق “المعاملة بالمثل” وأصدرت عام 1939 قانوناً بمنع تملك السوريين العقارات بتركيا.
وأعادت تركيا تفعيل قانون منع تملك السوريين عام 1966 وصادرت بحكم مرسوم رئاسي جميع ممتلكات السوريين غير المنقولة بتركيا، في حين سمحت لغيرهم من الجنسيات بالتملك رداً على “قانون إصلاح الأراضي” الذي أدخلته الدولة السورية حيز التنفيذ عام 1962 ويقضي بنقل ملكية العقارات العائدة للمواطنين الأتراك في سورية إلى الدولة من دون دفع أي مقابل.
ولم يأت البلدان على حل قضية منع التملك، خلال الوفاق وجني العسل بين تركيا ونظام بشار الأسد التي وصلت إلى اتفاق منطقة تجارة حرة عام 2007 والبدء بالإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية وصولاً لتصفيرها، قبل أن تتوتر العلاقات وتقطع بعد الثورة. بل استمرت قوانين المنع، حتى للسوريين على الأراضي التركية، رغم انفتاح أنقرة على الاستثمار وفتح باب الملكية وإلغاء مبدأ “التعامل بالمثل” عام 2012، فيما سمحت لمستثمرين من 183 دولة بأن يتملكوا في تركيا شققاً، فللاً، أراضي، وعقارات تجارية، لكنها أبقت المنع قائماً على السوريين ضمن ما يسمى حتى اليوم “الجنسيات الممنوعة من التملك في تركيا”.
نهاية القول: قد يتوثب على الشفاه سؤال: كيف تملّك السوريون وعملوا في تركيا لأكثر من عشر سنوات، فزادوا الصادرات بعدما بدّلوا من طبيعة الإنتاج وحتى أنماط الاستهلاك؟ الإجابة أنهم احتالوا على القانون بعدما أسسوا شركات بتركيا وسجلوا عقاراتهم باسم الشركات، وبالتالي يتاح لصاحب الشركة استخدام العقار واستثماره أو بيعه لاحقاً باعتباره الممثل القانوني للشركة أمام السلطات التركية، متنازلين عن بقية الحقوق، كالحصول على الإقامة العقارية أو التقدم للحصول على الجنسية التركية جراء الملكية التي تزيد عن مبلغ الجنسية الاستثنائية أحياناً.
أوليس من “كوميديا” بالأمر إذاً؟ تركيا تمنع حتى اليوم تملّك السوريين على أراضيها رغم إيوائها نيفاً ومليونيّ سوري، تبوّأوا قائمة الأعلى استثماراً بين الأجانب لأعوام متتالية، سواء عبر جنسياتهم غير السورية أو اضطروا للالتفاف على القانون والتملك عبر شركات يسجلونها بتركيا. وتنسحب الكوميديا على سورية أيضاً، ففي الوقت الذي تدعو فيه الدولة السورية الأتراك للمساهمة بإعادة الإعمار وتأسيس شركات وأعمال على أراضيها، تمنعهم القوانين السورية من التملك، بل لا تزال قوانين المصادرة من دون دفع مقابل سارية حتى اليوم.
بل لتكتمل فصول الكوميديا، بخاصة في تركيا التي خسرت ربما عشرات مليارات الدولارات جراء منع السوريين تملك العقارات والمنشآت خلال لجوئهم بالعقد الماضي، تابعت قبل أعوام قليلة (نوفمبر/ تشرين الثاني 2021) قوانين المنع حتى للسوريين الحاصلين على جنسيات أجنبية من التملك على أراضيها، ناسفة طرق الملكية عبر جنسية أخرى، ومعلنة صراحة خلال تعميم “كل مواطن سوري حاصل على أي جنسية أخرى كالألمانية أو السويدية مثلاً، إن أراد التملك في تركيا فهو يعامل معاملة المواطن السوري تماماً، بغض النظر عن جنسيته الأُخرى، بمعنى أنّه لا يستطيع تملك عقار في تركيا”.
إذاً، وقبل أن يتمادى مسؤولو البلدين بالدعوات للاستثمار والمساهمة بالإعمار وتوريط ربما من لا يعرف أن القوانين تمنع الملكية حتى اليوم، لا بد من إلغاء القوانين التي تمنع الملكية للسوريين بتركيا والأتراك بسورية، والعائدة إلى عام 1927 وتطوّرت وتعقدت لاحقاً. لأن القوانين لا تلغى بالوعود أو تصريحات المنابر، بل تحتاج إلى مراسيم رئاسية تصادق عليها البرلمانات، لتتحول إلى قوانين تجبّ ما قبلها.