بعد فضائح المساعدات.. هل تنجح دمشق في مكافحة الفساد الإغاثي؟

كتب ناظم عيد / المدن:

تتصدّر مهمة القضاء على الفساد في مجال العمل الإنساني الاستحقاقات التي تفرض نفسها أمام الحكومة السورية على المدى القريب، و تبدو الحاجة ملحّة اليوم لبلورة وإعلان آلية شفّافة لمخرجات عمل المنظمات المتخصصة بالشأن الإنساني العاملة في المضمار السوري، لأن المشهد العام للفقر ينطوي على تفاصيل موجعة تتطلب مقاربات واستجابات سريعة ورشيقة كأولوية متقدّمة لا تتحمل التأجيل.

فالأحاديث الرسميّة تشير حالياً إلى معدلات فقر تتراوح بين 70 و90 في المئة في أوساط المجتمع السوري (تصريح سابق وزير المالية)، كما أن البرنامج الذي تستعد الحكومة السورية لإعلانه لمكافحة الفقر يستند في جزءٍ من مصادر إمداده على المنظمات الدولية الإنسانية، وهذا أمر لازم ومطلوب ريثما تتبلور بيئة متوازنة للاستثمار واستنهاض المشروعات المولّدة للدخل كأرضيّة صلبة لمكافحة البطالة، بما أن الأخيرة أساس الفقر.

استحقاق عاجل

يرى خبراء ومتابعون في هذا الصدد، أن من الحكمة مسارعة الحكومة السورية للإعلان عن معالجات وإجراءات ضامنة لسلاسة وسلامة وصول جرعات الدعم والإغاثة لمن يستحق، وفق لوائح حصص مدروسة تراعي جملة ركائز، لتحفيز استجابة المنظمات الإنسانية والمجتمع الدولي باتجاه تعزيز المبادرات الفعالة الداعمة لاستقرار سوريا والشعب السوري، فالوضع على الأرض بالغ التعقيد ولا بدّ من شدّ انتباه المجتمع الدولي واستعادة الثقة بقطاع العمل الإنساني في البلاد، بعدما أتخذ ” فساد العمل الإغاثي” بُعداً بغيضاً في سوريا، بكل ما يعكسه هذا العنوان من تناقضات كئيبة طرفاها “الفساد والعمل الإنساني”.

والظاهرة لم تقتصر طيلة السنوات السابقة على مناطق محددة إن تلك التي كانت تحت سيطرة سيطرة النظام أو الأخرى المُحرّرة، بل انستشرت على كامل الجغرافيا السورية المأزومة، بما أن الفساد لا يعترف بحدود ولا بإيديولوجيات وله “جمهوريته الخاصّة” العابرة للشرائع والأعراف.

فساد معلن

 

يتحدث أحد الصحافيين القادمين إلى دمشق من الشمال – بعد التحرير- عن أنه أعدّ تحقيقاً استقصائياً واسعاً حول “الفساد الإغاثي”، لكن أحداً ما نصحه بعدم نشره لأنه قد يؤدي إلى مفعول عكسي يقلّص مساحات استجابة هذه المنظمات، وفي المحصّلة يشير إلى أنه تم نشر التحقيق مغفل الاسم لتضيع هويّة صاحبه وإحداثياته الجغرافية. إذ يبدو أنه على الرغم من وضوح ممارسات الفساد والتجارة السوداء بالمواد والسلع الإغاثية، ومثلها الخدمات التي كانت تقدمها الجهات المانحة تحت بند الإغاثة، يبقى للإشارة والتوثيق الإعلامي أثره الذي لا يمكن تجاهله.

ولم يكن الوضع في مناطق سيطرة النظام أحسن حالاً، فالمشاهد ذاتها تتكرر بصورة مطابقة تماماً وكانت الأرصفة والمتاجر شاهداً لا يمكن تكذيبه على اختلالات وارتكابات تجري في كواليس العمل الإنساني، إلا أن أي لغط حول الموضوع كانت السلطات الرسمية تواجهه بالنفي.

استثمار بغيض

وكانت أبرز المؤسسات التي عُنيت بهذا الجانب في مناطق سيطرة النظام، منظمة الهلال الأحمر، والأمانة السورية للتنمية مع الإشارة إلى أنه كان هناك ما يسمى صندوق الإغاثة يتبع لوزير الإدارة المحلية تُخصص له اعتمادات من الموازنة العامة للدولة “50 مليار ليرة سورية”، طبعاً إضافة إلى منظومة جمعيات “خيريّة” تعمل تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. تمارس هذه الجهات أعمالها ضمن دوائر مغلقة فضّل جميع الإعلاميين كبح جماح فضولهم في البحث والتحرّي عن تفاصيلها لأنها مغامرة غير محسوبة النتائج.

كما كانت مناسبة “زلزال 6 شباط 2023” كافية ربما لكشف فضائح استشعرها الجميع في كيفيّة إدارة وإنفاق المساعدات التي تدفقت إلى سوريا من دول عربية وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة “اعترت التدفقات الإغاثية عمليّة فساد وشبهات من الطراز الكبير”.

ولا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى ما طالما كان مثار استغراب، وهو أن القائمين على المفاصل الأساسية والحسّاسة لا سيما منظمة الهلال الأحمر السوري والأمانة السورية للتنمية، كانوا من المحظيين والامتيازيين، فمثلاً كان يترأس فروع الهلال الأحمر في بعض المحافظات مستثمرون أو أبناء مستثمرين امتيازيين “المنصب الإغاثي في سوريا استثمار”، ومثل ذلك الأمانة السورية للتنمية، وأيضاً داخل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وإدارة قطاع الجمعيات الخيرية “بعد إقالة إحدى الوزيرات تم تداول أنباء عن حكايا فساد من بطولة شقيق السيدة الوزيرة”.

رقم صادم

وصل عدد منظمات “المجتمع المدني” في سوريا بعد العام 2001 إلى 1486 منظمة وهو رقم ربما سيكون صادماً للجميع إلا أنه منسوب إلى دراسة سابقة أعدها المركز العربي لدراسات سوريا، لكن العدد تقلّص بعد أحداث ربيع دمشق، وتقوقع نشاط المنظمات عموماً في المجال الخدمي، ليعاود الرقم الصعود تدريجياً بعد 2011 وتمت ولادة أعداد كبيرة من المنظمات في مناطق المعارضة السورية حينها، ركّزت نشاطها على الجانب الإنساني لا سيما في أرياف حلب و إدلب.

أطلقت هذه المنظمات و”الجمعيّات” نشاطاتها في سوريا بناء على مرجعيتين قانونيتين. الأولى قانون الجمعيات السورية رقم 93 للعام 1958، ثم قانون الجمعيات التركي رقم 5253 للعام 2004، إضافة إلى تعاميم مؤقتة، في تداخل جعل من عمل هذه المنظمات مهمة معقدة إلى حد ما.

ووفقاً للمركز العربي، شهد الدعم الدولي للمنظمات حالة من التنظيم خلال مؤتمر بروكسل الذي عُقد لأول مرّة في العام 2017 من أجل حشد الدعم الدولي للمنظمات العاملة في سوريا، واعتمدت معظم المنظمات على تبرّعات رجال أعمال سوريين ومن الجاليات خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية.

اتسم عمل المنظمات خلال الفترة بين 2015 و2019 بالازدهار، ثم تراجع نشاطها مع بدء “مسار التعافي المبكّر” بعد قرار الأمم المتحدة الخاص بالمساعدات الإنسانية عام 2021، ليعاود النشاط بالتحسّن مع كارثة الزلزال عام 2023، ثم عاود التراجع مع تراجع الاهتمام الدولي بالقضية السورية وصعود المسألة الأوكرانية واجتياح غزة.

وبسبب ضعف أو غياب الأطر القانونية والتنظيمية وعدم جهوزيّة بيئة العمل وتداخل الملفات، اتسم عمل هذه المنظمات بالعشوائية التي أسست لممارسات فساد واسع الطيف، ومشاهدات أشار إليها الجميع لكن أحداً لم يستطع توثيقها مستنديّاً بالتالي لم تجرِعمليات تدقيق ومحاسبة للمرتكبين بسبب صعوبة حصر التهم، لكن بالشكل العام كانت لذلك منعكسات سلبيّة وقرارات كبح لـ “حالة السخاء” تجاه الداخل السوري بشطريه السابقين.

استعادة الثقة

على العموم لن نتطرّق إلى كثيرٍ من التفاصيل السابقة، فما يعنينا حالياً هو الحديث عن سبل استعادة ثقة المنظمات الإغاثية والمانحين والمجتمع الدولي، لمعاودة تركيز نشاطهم في بلد منكوب بكل معنى الكلمة.

هو سؤال بالغ الأهمية بالفعل، كيف ننظّم عمل المنظمات للحد من الفساد في إيصال جرعات الدّعم والإغاثة، بما يتكفّل بطي صفحات الماضي؟

يرى المحامي بسام صبّاغ المتخصص في القانون الدولي الإنساني، أنه لا بدّ من توطين حزمة إجراءات عمليّة على ثلاثة مستويات: الحوكمة، السلسلة التشغيليّة، الشفافية المجتمعيّة.

فبالنسبة للحوكمة والتأطير يقترح المحامي صبّاغ في حديثه لـ”المدن”، سجل وطني محدّث للمنظمات والشركاء المحليين (kycمؤسساتي، ملكيّة المستفيد الحقيقي، سياسة تضارب المصالح، مدوّنة سلوك).

ثم تراخيص مشروطة بالأداء تربط تجديد الترخيص بدرجات امتثال وتقييمات خارجيّة، إلى جانب معايير موحّدة للمشتريات (عتبات أسعار مرجعيّة، مناقصات علنيّة، قائمة مورّدين سوداء / رماديّة، تدقيق فجائي للمستودعات).

ومن المهم – وفقاً للمحامي صبّاغ – وضع خطط لمكافحة الغش والفساد ( A-CFE) داخل كل منظمة..أي مسؤول امتثال، قنوات إبلاغ محميّة، تتبّع قضايا ونتائجها.

سلسلة تشغيليّة

التنظيم يجب أن يكون محور الآلية الجديدة للتعاطي مع سلاسل الإمداد الإغاثيّة، من وجهة نظر اختصاصي القانون الدولي والإنساني، فالسلسلة التشغيليّة (من التعاقد إلى التسليم) ذات بعد حسّاس في هذا القطاع.

ولضمان أفضل الأداء في هذا السياق يركّز صبّاغ على تنظيم استهداف المستفيدين، من خلال اعتماد سجل اجتماعي موحّد متعدد المصادر ( بلديات، مخاتير، جمعيات، مدارس/ مراكز صحيّة)، مع تحقق تقاطعي وتقليل الازدواجيّة عبر أرقام تعريفيّة / رموز QR.

أما بشأن أدوات الدفع والتسليم، وهي الحلقة التي لها خصوصيتها، فيرى المحامي صبّاغ أن الخيار الأمثل هو قسائم إلكترونيّة / بطاقات مسبقة الدفع أو تحويلات مقننة عبر قنوات مصرفيّة مرخّصة “تتبّع رقمي من المخزن إلى المستفيد”.

كل ذلك يُتبع برقابة ميدانية قوامها مراقبون من طرف ثالث (TPM) وتدقيقات مفاجئة وصور / إحداثيّات للتسليمات، و مسوحات ما بعد التوزيع بعيّنات عشوائية (PDM).

ويُشدّد المحامي صبّاغ على مراقبة السوق من خلال لوحات أسعار مرجعيّة لمنع تسرّب السلال للسوق السوداء، وربط الكميات المصروفة بسجلات المورّدين وحركة المخزون.

ثم تحصين العقود ببنود جزائية واضحة، وكفالات حُسن تنفيذ، ونشر موجزات العقود (قيمة، مورّدن كميات، موقع).

شفافيّة ومساءلة

الشفافية والمساءلة العامة شرط لازم، يضعه المحامي صبّاغ لضمان النجاح، ويراه من خلال بوابة شفافيّة حكوميّة / وطنية تتضمن خرائط المشاريع، الميزانيّات، مواقع التوزيع، مؤشرات الأداء.

ثم منظومة شكاوى متعددة القنوات (خط ساخن، واتساب رسمي، صناديق شكاوى ماديّة)، مع زمن استجابة محدد ونشر تقارير فصلية عن الشكاى والمعالجات.

إضافة إلى لجان مجتمع محلي تُشارك في التحقق من القوائم قبل وبعد التوزيع، ومراقبة الفعالية وعدالة الوصول.

هنا من الطبيعي أن يُصار إلى “التشييك” على سلامة أداء منظومة الإغاثة وفق الروائز السابقة، وذلك ممكن – وفقاً للمحامي صبّاغ – من خلال مؤشرات نجاح سريعة (KPIS) أي نسبة الشكاوى المعالجة خلال 14 يوماً، معدّل الازدواجيّة المكتشفة، الفارق بين الأسعار التعاقدية وسعر السوف، نسبة التسليمات الموثّقة جغرافياً، عدد / نتائج التدقيقات المفاجئة.

مسوحات جديدة

هنا نصل إلى سؤال يفرض نفسه على كل من يخطط لضمان إيصال الدعم إلى مستحقّيه وهو هل ستكون سوريا بحاجة إلى مسوحات وخريطة فقر جديدة؟

يحسم المحامي بسام صباغ إجابته لـ”المدن” بأنه لابدّ من خريطة جديدة، لأن القديمة لم تعد تعكس الواقع بعد صدمات اقتصادية متعددة، والمطلوب برأيه مسح أسري مبسّط ومتكرر يجمع دخل، إنفاق، حرمان، خدمات، سكن، تعليم، صحّة، إعاقات، أمن غذائي. وتقدير الفقر صغير المساحة من خلال دمج عينات المسح مع بيانات إدارية (مدارس، مراكز صحية، سجلات مختلفة) وصور أقمار صناعية ليلية لتحديد الجيوب.

مع اختبار وسائل بديلة لضمان عدالة التراتبية في الاستهداف..وسجل اجتماعي موحّد يربط الأسر بالبرامج، مع تحديثات دوريّة وقواعد حماية بيانات، إضافة توثيق واجهات بيانات للوزارات والمنظمات لتبادل آمن للبيانات وتفادي ازدواجية المساعدات، كما لا بد من خريطة فقر تفاعليّة تُحدّث سنوياً وتُعتمد لتوجيه برامج النقد والغذاء والصحة والتعليم.

تحفيز السخاء الآمن

يجزم المحامي المتخصص بالقانون الدولي والإنساني بأن التنظيم ومكافحة الفساد يشجّع المبادرات الإيجابية من كل المانحين، فبرأيه عندما تتضح القواعد وتطبق العدالة تتعزز ثقة المانحين والقطاع الخاص والشتات بضخ موارد أكبر.

كما تتعزز كفاية التوصيل وينخفض الهدر بما يتيح تحسن التغطية والجودة..كما يتحفّز الابتكار المحلّي (مطابخ إنتاجية، قسائم رقمي، برامج نقد مقابل عمل)، لأن المخاطر النظامية تصبح مفهومة وقابلة للإدارة.

ويقترح المحامي صبّاغ عبر “المدن” جملة خطوات داعمة للمبادرات مثل: نوافذ ترخيص سريع للمبادرات الصغيرة، إعفاءات جمركية وضريبية للمساعدات الموثّقة، قناة مصرفية منخفضة المخاطر بتحقق امتثال مبسّط للمساعدات، مسابقات ومنح صغيرة للابتكار المجتمعي مع إشراف خفيف وشفافية كاملة.

[ جديد الخبير ]