إدارة مرتكسة للموارد وإخفاقات متتالية

وديع شماس ـ الخبير السوري:

لم يكن الانهيار المعيشي الذي عاشه السوريون خلال السنوات الماضية نتيجة عوامل ظرفية أو أخطاء تقنية معزولة، بل جاء حصيلة نموذج اقتصادي مغلق قام على الاحتكار، وضعف الشفافية، وتغليب المعالجة الأمنية على الحلول الاقتصادية المستدامة.

وقد انعكست هذه السياسات بشكل مباشر على حياة المواطنين، من خلال تآكل الدخول، وانعدام العدالة في توزيع الموارد، وتراجع الثقة بين الدولة والمجتمع.

 سياسات إفقار

اتبعت السياسات الاقتصادية السابقة نهجًا سمح بانتقال أثر تقلبات سعر الصرف مباشرة إلى أسعار السلع والخدمات، بينما بقيت الأجور ثابتة أو شبه ثابتة. ومع وصول متوسط دخل شريحة واسعة من الموظفين إلى ما يعادل 25 دولارًا أمريكيًا، أصبحت الفجوة بين الدخل وتكاليف المعيشة أمرًا بنيويًا لا ظرفيًا، ما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر.

دعم اسمي

ورغم الحديث المتكرر عن “الدعم”، فإن آلية تطبيقه كشفت عن محدودية جدواه. فالخبز، على سبيل المثال، حُدد له سعر رسمي منخفض، لكنه كان غائبًا عن متناول كثير من المواطنين، لتتحول الطوابير إلى حالة يومية، ويزدهر البيع غير النظامي بأسعار تفوق السعر الرسمي بأضعاف، في ظل ضعف الرقابة وانعدام المحاسبة الفعالة على امتداد سلسلة الإنتاج والتوزيع.

خلل في التوزيع

انسحب النمط ذاته على ملف المشتقات النفطية. فالمخصصات المحدودة، وغياب الضبط في توزيعها، وتفاوت الوصول إليها بين المواطنين، أدت إلى أزمات متكررة في التدفئة والنقل. كما ساهم عدم انتظام عمل النقل العام، وارتفاع تكاليفه، في تحميل المواطن أعباء إضافية لم تكن ضمن قدرته الاقتصادية، ما زاد من الضغوط الاجتماعية والمعيشية.

 احتكار بلا توازن تشريعي

ويبرز قطاع الاتصالات كأحد أكثر القطاعات حساسية، نظرًا لكونه خدمة أساسية ترتبط بالعمل والتعليم والتواصل. فقد أُدير هذا القطاع في ظل عقود احتكارية، أتاحت لشركتي الخليوي رفع الأسعار والباقات بوتيرة متسارعة، دون وجود نظام واضح يربط السعر بجودة الخدمة أو بدخل المستخدم. ومع غياب المنافسة الحقيقية، وتراجع أدوات حماية المستهلك، أصبح العبء المالي للاتصال جزءًا ثابتًا من معادلة الاستنزاف الشهري للأسر.

رقمنة دون حوكمة

أما تطبيقات الإدارة الإلكترونية وبطاقات التوزيع، فرغم أهميتها النظرية في ضبط الموارد، إلا أن غياب الحوكمة الشفافة حوّل بعضها إلى أدوات لتنظيم النقص بدل معالجته. وبات المواطن يجد نفسه أمام إجراءات منظمة، لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى تحسين مستوى الخدمة أو ضمان عدالة الوصول إليها.

خلل بنيوي

تكشف هذه الملفات مجتمعة أن الخلل لم يكن في قطاع محدد بقدر ما كان في طريقة إدارة القطاعات، حيث تراجعت الرقابة المستقلة، وتوسعت الاستثناءات، وغابت المعايير الموحدة في اتخاذ القرار الاقتصادي، وهو ما انعكس في نتائج لم تصب في مصلحة الاستقرار الاجتماعي ولا في تعزيز الثقة العامة.

ومن هنا، فإن مراجعة هذه التجربة باتت ضرورة معرفية ومؤسسية، ليس من باب السرد أو التوصيف، بل بهدف استخلاص الدروس العملية. فالتوازن بين كفاءة السوق ودور الدولة، وربط السياسات بالقدرة المعيشية، وتعزيز الشفافية في القطاعات الحيوية، تبقى عناصر أساسية لضمان استدامة أي إصلاح اقتصادي.

إن المرحلة المقبلة، بما تحمله من تحديات وفرص، تتطلب مقاربة هادئة لكنها واضحة، تُعلي من شأن القواعد العامة على حساب الاستثناءات، وتضع الرقابة والمساءلة في موقع الضمان للاستقرار، لا كأدوات مؤجلة. فالتجارب السابقة أثبتت أن معالجة الاختلالات في وقتها أقل كلفة بكثير من انتظار تراكم آثارها، وهو درس اقتصادي وإداري يستحق أن يبقى حاضرًا في أي مسار إصلاحي جاد.

[ جديد الخبير ]