لم أسمع أيّ مسؤول حكومي في سورية يشير إلى شبه تلاشي الطبقة الوسطى أو أوعز لدراسة نسبتها، بعد سنيّ الحرب والتفقير والهجرة، أو سأل وتساءل عن سبل استعادتها وتوسيعها، رغم اليقين بانحسارها والمعرفة بدورها، جسراً ووسيطاً، إن لم نقل الحامل لعملية التنمية والتطوير، على اعتبارها خزان المثقفين والموظفين والمستهلكين، وفي وجودها واتساعها، وضماناً للمجتمع وللمفاهيم القيّمية والأخلاقية، وللاقتصاد من الهزات والركود والبطالة، وحتى للسلطة من الاضطرابات السياسية أو الاحتجاجات والثورات. وبالسؤال عن حال الطبقة الوسطى في سورية اليوم، ومن خلال عملية حسابية بسيطة، فهي لا تزيد عن 5% من المجتمع السوري وبأحسن الأحوال وفق تقديرات غير رسمية. هذا إن ساويناها وطبقة الأغنياء، مع ما يفيض عن طبقة الفقراء التي تقدرها تقارير محلية ودولية بنحو 90%، وانحسار هذه الطبقة، المتفق أنها ضمان الحزام الاجتماعي والمنتجة الحقيقية للاقتصاديين والمثقفين، أو بتلاشيها كما الحالة السورية اليوم، خطر يهدد بنية الدولة.
وحكاية الإجهاز على الطبقة الحزام في سورية، بدأت بعد توريث بشار الأسد السلطة عام 2000، إذ آثر مورثه، حافظ الأسد المحافظة على الطبقة الوسطى، بشكل أو بآخر، سواء عبر ما يقال عن اتفاق أو توافق مع البرجوازية السورية لتبقى بالاقتصاد وتترك السياسة والجيش للأسد، أو ليقينه أن تلاشي هذه الطبقة تحقين للمجتمع وخطر على وجوده. رغم أن تاريخ بداية مد اليد على الطبقة الوسطى بسورية، تزامن مع حالات التأميم وتهجير أصحاب الأعمال مطلع ستينيات القرن الماضي، لكنها بقيت وعلى عتبة 60% حتى بدأ، مع توريث بشار، الخلل بالعقد مع أصحاب الأموال، وتخسير القطاع الحكومي وتسلل آل الأسد إلى القطاع الاقتصادي مطلع الألفية.
بدأ مشوار تلاشي الطبقة الوسطى خلال الثورة عام 2011، وقت بدأت الأسعار بالارتفاع والقطاع الحكومي الإنتاجي بالتوقف والتدمير، ليكون استهداف مجتمع الثورة الذي يصنّف جله ضمن الطبقة الوسطى، سواء بالتهجير إلى المخيّمات أو إلى خارج البلاد، الضربة الكبرى للطبقة الحاملة للمجتمع وأسباب استقراره الاقتصادي والسياسي، فرأينا النسبة تتراجع، وفق التقديريات في ظلّ غياب أي إحصاء رسمي سوري، لنحو 25% عام 2014 متراجعة عن نحو 55% ما قبل الثورة، ويتتالى إعدام هذه الطبقة، بواقع التفقير والتهجير وتفشي الفساد، حتى تلاشت إلى نحو 5% أو ربما أقل، خلال سنيّ الثورة الأخيرة حتى اليوم. قصارى القول: يأتي الاتفاق على تعريف هذه الطبقة من خلال تسميتها، فهي اقتصادياً، الوسطى بين الفقر والثراء، وعلمياً ومهنياً، هي حاملة أصحاب الأعمال الفكرية والتعليم، من موظفين مهنيين وأكاديميين، واجتماعياً هي الطبقة الأكثر محافظة على القيم والحريصة على العلم المانحة الاستقرار، بل هي رأس المال الاجتماعي والثقافي في أي دولة، الذي يستثمر بالفكر والقيّم والاستقرار.
لذا؛ تؤثر المجتمعات والدول المتقدمة بقاءَ نسبتها أكثر من 60% من المجتمع، لتحافظ على نمو الاقتصاد، ورفده بالمهنيين، والمحافظة على تحريك الأسواق على اعتبارها الأكثر استهلاكاً ودفعاً للضرائب، فضلاً عن دورها عاملَ أمان اجتماعياً وسياسياً. وأما سورية حالياً، فتحاول البناء والانطلاقة ربما مما تحت الصفر، بعد تدمير ممنهج للاقتصاد والمجتمع وحتى للسمعة والبيئة الاستثمارية. وتوفرت جميع عوامل تلاشي الطبقة الوسطى، من حرب امتدت نحو 15 عاماً تدمرت خلالها جميع عوامل البقاء، وتراجع الدخل إلى ما دون القدرة على قيد الحياة، بعد موجات تسريح للعمال وهروب للكفاءات، وتباين سحيق بين قلة ثرية استثمرت بالحرب وسواد أعظم يعانون الفقر، ممن ارتضوا البقاء بكنف نظام الأسد طيلة سني الثورة.
تقتضي الضرورة والتطلع السوري للبناء اليوم، البحث عن سبل استعادة هذه الطبقة ومحاولات بنائها من جديد، عبر عقد اجتماعي متوازن وعادل، بين السلطة والمواطن، بعد استعادة الأمن والجغرافيا والنظر إلى رأس المال البشري عبر منظومة تعليمية، ومحدّدات دخل لائق، ومنظومة قانونية وسياسات اقتصادية محفزة عبر حوامل الصناعات والمشاريع المتوسطة التي تبدع في تأسيسها وإدارتها وحسن إنتاجها، الطبقة الوسطى. وأياً بدت متطلبات إعادة بناء هذه الطبقة صعبة أو طويلة ومكلفة، والبدء بتشكيلها يتطلب نهجاً علمياً وتقنياً ومعرفياً، فهي ضرورية ولا يمكن القفز عليها أو اعتبارها ترفاً مؤجلاً، فهي فضلاً عن عكسها صحة المجتمع واستقراره، هي شرط ضروري لاستعادة الاقتصاد المدمر ونسب النمو الصفرية أو السالبة، لأن الطبقة الوسطى، وكما أسلفنا محرّك الطلب الاستهلاكي الحقيقي ورافد الخزينة واستقرار المالية والدخل الحكومي ومولد الكفاءات، بل وخط الدفاع الأول أمام الصدمات الاقتصادية، من ركود وإفلاس وجائحات، من خلال تنوع دخلها واكتناز مدخراتها ومرونتها خلال الأزمات.
طبعاً، من دون أن نفهم أن إعادة بناء الطبقة الوسطى سيكون على حساب طبقة البرجوازية، لأنّ لاستعادة البرجوازية السورية أهمية ودور وحاجة، ولا دور أو وجود لكلتا الطبقتين، إلّا معاً. بل استعادة كلتا الطبقتين تكون على حساب طبقة الفقراء التي بلغت، ربما من الأعلى دولياً، بعد تخطيها عتبة التسعين بالمئة. إن كان التأريخ العملي لتلاشي الطبقة الوسطى في سورية، بالعصر الحديث، قد بدأ منذ “أكذوبة” تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أقره المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث المنحل عام 2005، واستفحل استهداف هذه الطبقة خلال الثورة، ما بعد عام 2011، وقت كان تفقير الشعب ضمن نهج القمع وتهديم البنى والتطلعات هدفه قتل حلم السوريين، فعلى الأرجح أن تطبيق اقتصاد السوق، حتى من دون الاجتماعي اليوم، ووفق وضع السوريين المتردي، مالياً واجتماعياً، سيكون إجهازاً كاملاً على الطبقة الوسطى، واختصاراً للمجتمع السوري بطبقة غنية وأخرى فقيرة، ويكون لغياب الطبقة الحامل، الطبقة الجسر، ما له من مخاطر اقتصادية وكوارث اجتماعية وحتى سياسية.
لذا؛ قد تكون الانطلاقة في سورية اليوم، بمحاولة استعادة الطبقة الوسطى، عبر إعادة النظر بالتعليم أولاً قبل الانتقال للكفاية، عبر رواتب توازي أو تزيد المصاريف، وخلق أنظمة عادلة وبمقدمتها الضريبية التي لا تساوي بين اقتطاع الموظف مع الصناعي والتاجر، ومكافحة الفساد وتعزيز الشفافية عبر فتح باب المنافسة لوصول من يستحق لا من يوالي. وطبعاً، وضع سياسات وخطط وحتى مغريات، لتستعيد عبرها سورية اليوم ما خسرته في الأمس من أموال مهاجرة وكفاءات بشرية مهجرة، لأن جلّ اللاجئين السوريين بدول الشتات، يصنفون ضمن الطبقة الوسطى، وشهدت مواطنهم الجديدة على قدراتهم بالبناء والاستقرار والتشبيك بين الطبقة الغنية والفقيرة.