متغيرات قاهرة للمجتمعات.. قرصنة معلنة الترفيه و”الجيل زد” يتمرد اقتصادياً لا إيديولوجياً

الخبير السوري:

قبل عقد ونيف فقط، بدا البث الرقمي الناشئ حديثاً مع خدمات مثل “نتفليكس” وكأنه وعد بالتحرر من قيود المشاهدة التقليدية وخدمات الكايبل والاشتراكات التقليدية والرقابة، مقابل اشتراكات مالية بسيطة لا تتجاوز 10 دولارات على الأكثر تفتح للمشاهد بوابة لا نهائية من الخيارات: أفلام ومسلسلات ووثائقيات وبرامج أصلية، كلها في متناول اليد. لم يعد المرء بحاجة إلى الاشتراك في باقات الكابل المملة، أو انتظار مواعيد العرض على التلفزيون. كانت تجربة البث أشبه بثورة ثقافية، كسرت احتكارات القنوات الكبرى وقدمت وعداً ديموقراطياً جديداً: أن تصبح الثقافة متاحة للجميع، بلا حدود ولا وسطاء.

صراع

لكن ذلك الوعد الجميل لم يصمد طويلاً، مع تحول المشهد تماماً من خدمة بسيطة إلى منافسة شرسة بين شركات عملاقة كبرى، من “نتفليكس” نفسها إلى “ديزني” و”هولو” وغيرها من الشركات والاستوديوهات التي باتت تمتلك خدمات بث تعرض فيها محتوياتها التي كانت متوافرة في السابق عبر خدمة بث واحدة للجميع، بشكل أفضلى إلى نموذج التجزئة والغلاء والإرهاق الرقمي الحالي، حيث لم يعد يكفي الاشتراك في منصة واحدة مثل “نتفليكس” كافياً بل يجب التنقل بين عشرات المنصات المحلية أو المتخصصة، وكل منها يحتكر جزءاً من المحتوى خلف جدران دفع جديدة. ومع كل عام، ترتفع الأسعار، وتفرض قيود جديدة: منع مشاركة الحسابات، إعلانات تتسلل حتى إلى الاشتراكات المدفوعة، وتخفيض جودة الصورة للمستويات الأرخص.

 

بدائل قسرية

وفي العام 2025 باتت النتيجة واضحة : جمهور ينسحب بهدوء، وبحث متزايد عن بدائل أقل تقييداً حتى لو كانت غير قانونية، بدليل الازدهار الذي تعيشه مواقع القرصنة العالمية التي استقبلت أكثر من 216 مليار زيارة العام 2024 وحده، وهو مستوى تاريخي، بعد انحدار تاريخي أيضاً بلغ اعام 2020 معدل 130 مليار زيارة فقط، بحسب شركة “MUSO” البريطانية المتخصصة في مراقبة القرصنة وحماية المحتوى، في وقت كانت فيه خدمات البث الرقمي تزدهر من “سبوتيفاي” إلى “كرانشي رول” المتخصص في عرض الأنمي.

يقود ذلك التغير أفراد من “الجيل زد”، إذ لم تعد القرصنة حكراً على المستخدمين المتمرسين تقنياً أو على بلدان تفتقر إلى خدمات البث. بل أصبحت ممارسة شائعة حتى في الأسواق الأكثر تنظيماً مثل أوروبا. ففي السويد مثلاً، وهي من أكثر الدول انضباطاً في قوانين الملكية الرقمية، أظهرت دراسة نشرتها صحيفة “ذي غارديان” البريطانية، أن واحداً من كل أربعة سويديين أقر بتحميل أو مشاهدة محتوى مقرصن العام 2024، وغالبيتهم من الشباب بين 15 و24 عاماً.

مفارقة

 

يشكل ذلك مفارقة لافتة لأن الجيل الذي ولد في عصر البث القانوني هو ذاته الذي يعيد اليوم إحياء القرصنة، ليس بدافع التمرد السياسي، بل ببساطة لأن النظام لم يعد منطقياً من ناحية اقتصادية. و”الجيل زد” لم يخترع القرصنة لكنه يعيد صياغتها تماماً مثلما نبش أفراده في التاريخ للوصول إلى أزياء التسعينيات المروعة (التي كان يجب أن تبقى مدفونة وميتة!)، والهواتف القديمة والديكورات فاقعة الألوان في متاجر “الأنتيكا”. وفيما يحلو للأفراد الأصغر سناً التباهي بذلك في “تيك توك” و”يوتيوب” بوصفه تمرداً على السيستم، فإن ذلك التمرد ليس أيديولوجياً بقدر ما هو اقتصادي بالدرجة الأولى، لأن أولئك الشباب يواجهون واقعاً من التضخم المستمر، والوظائف المؤقتة، وتكاليف الحياة المتزايدة، بينما تتكاثر اشتراكات البث إلى حد مرهق، والتي تشكل واحداً من المتنفسات القليلة ضمن سيستم الحياة المعاصرة.

برامج ضد الدفع

وفيما يصبح دفع أكثر من 80 يورو شهرياً لمتابعة المسلسلات المفضلة ضمن منصات متعددة، ترفاً غير مبرر، من دون الحديث عن اشتراكات الموسيقى وألعاب الفيديو وغيرها، تتحول القرصنة إلى وسيلة عقلانية في ظل نظام تجاري يبالغ في الاستغلال. بالنسبة لجيل نشأ في اقتصاد غير مستقر، لم تعد القرصنة فعل سرقة، بل شكلاً من أشكال العدالة الذاتية أو الكفاءة الاقتصادية، ولا يشكل ذلك مفاجأة بل كان متوقعاً حتى العام 2011، حين قال المؤسس المشارك لشركة “فالف” التي تدير أكبر منصة ألعاب للحاسوب في العالم “ستيم”، غايب نيويلفي: “القرصنة ليست مشكلة أسعار، بل مشكلة خدمات”.

Data thief stealing DVD from laptop

في المقابل، كانت القرصنة بالنسبة لجيل الألفية، خصوصاً في الشرق الأوسط والعالم العربي، فعل مقاومة ضد الرقابة والحرمان. فحين كانت الرقابة العربية تحذف المشاهد “غير الأخلاقية” ضمن نظام الأخلاق المحلي، كقبلة في فيلم أو إشارة للمثلية الجنسية في سلسلة تلفزيونية أو عرضاً لشعارات دينية آسيوية في مسلسل “أنمي”، ظهرت مواقع وأفراد يوفرون النسخ الأصلية، ويترجمون المحتوى مباشرة من اليابانية أو الإنجليزية إلى العربية، وكانت القرصنة بذلك فعل مقاومة ثقافية ضد المنع والرقابة.

كسر الحواجز

والحال أنه في العالم العربي وأجزاء واسعة من العالم الأقل نمواً، لم تختف القرصنة أصلاً، بل كانت دائماً وسيلة للوصول إلى ثقافة محجوبة، أو إلى محتوى لا تسمح به الرقابة أو لا يستطيع الجمهور تحمل كلفته. وكان الإنترنت بالنسبة إلى أجيال كاملة نافذةً على العالم الحر. والمفارقة اليوم هي أن الغرب نفسه بدأ يعيش التجربة ذاتها ويترافق ذلك مع انقلاب في الصيغة الأخلاقية التي تناقش عبرها القرصنة، ليس فقط في “يوتيوب” أو “ريديت” بل حتى في وسائل الإعلام التقليدية والصحف الكبرى.

مثلاً، قبل عقدين من الزمن، كانت الحملات الدعائية تقول: “لن تسرق سيارة، فلماذا تسرق فيلماً؟” على طريقة المثل العربي العتيق: “من يسرق بيضة يسرق جملاً”، من أجل وصم القرصنة بالعار الأخلاقي، مع عدم وجود مبرر اقتصادي مثلاً. لكن الزمن تغير حيث تتردد جملة معاكسة في الإنترنت اليوم: “لن تسرق من عملائك المخلصين. لكنهم يفعلون ذلك كل يوم”، في إشارة لشركات البث.

بالتالي، لم تعد القرصنة فعلاً بطولياً ولا جريمة، بل مساحة رمادية بين الاثنين. هي وسيلة لاستعادة التوازن أمام نظام تسويقي مفرط الجشع. حين تصبح الحرية منتجاً يُباع، فإن سرقتها تغدو في نظر البعض استعادة لها. والقرصنة بحد ذاتها تسد حاجة موجودة في السوق الرقمي، وبغياب تلك الحاجة تغيب ضرورة اللجوء للقرصنة.

بهذه الروح، تحولت القرصنة إلى شكل من أشكال العصيان المدني الرقمي، احتجاج صامت على نظام تجاري غير عادل.

ولم تعد القرصنة تبرر بالحاجة إلى التسلية المجانية، بل بالحديث عن غياب العدالة في الوصول إلى الثقافة. وحين يفرض النظام قيوداً مصطنعة على ما كان يوماً متاحاً للجميع، يشعر الناس أن اللوم لا يقع عليهم، بل على الشركات التي كسرت العقد الاجتماعي غير المكتوب بينها وبين الجمهور. وتحولت تغريدة “نتفليكس” الشهيرة العام 2018 التي قالت فيها أن مشاركة الحساب مع الآخرين هو فعل من أفعال الحب، إلى نموذج لتلك الخيانة، لأن الشركة نفسها لاحقاً باتت تلاحق مشاركة كلمات المرور وتفرض أسعاراً إضافية في حال أرادت العائلة مثلاً، مشاهدة “نتفليكس” معاً ضمن حسابات متعددة.

تمرد

والتمرد الشبابي اليوم يبدو مختلفاً جذرياً عما كان عليه في الثمانينيات والتسعينيات ومطلع الألفية. في تلك العقود، كان التمرد موجهاً إلى الخارج: ضد التقاليد، والدين، والسلطة، والتمييز. ففنانون مثل مادونا مثلاً كانوا رمزاً لمعنى التمرد الذي يحارب النفاق الأخلاقي والديني، وفتحوا المجال أمام حرية الجسد والتعبير. كان تمردهم سياسياً وثقافياً في آن واحد، يهدف إلى تحرير المجتمع من القوالب القديمة، لكن معنى التمرد الذي يقدمه “الجيل زد”، حتى على صعيد المشاهير فيه، فصامت ورقمي واقتصادي في جوهره: لا شعارات، لا مظاهرات، بل انسحاب مدروس من الأنظمة القائمة: لا اشتراكات، لا ولاء للمنصات، لا مشاركة في لعبة الاستهلاك اللامنتهية. يظهر تمردهم عبر الميمات الساخرة، أو المقاطعات الجماعية، أو اللجوء إلى بدائل غير رسمية.

والتمرد ليس مبالغة مهما بدا الحديث عنه دراماتيكياً، لأن أولئك الأفراد نشأوا طوال حياتهم في ظل الوفرة الرقمية، وبالتالي فإن غيابها اليوم عنهم، يجعلهم في موقف جديد كلياً، فهم على عكس جيل الألفية لم يختبروا الحياة قبل الإنترنت ولا الحياة في ظل الإنترنت البدائي مع سيطرة شبكات الإعلام التقليدي على الفن والثقافة والترفيه، وبالتالي فإن شعورهم بالتمرد على السيستم له أسباب واقعية.

ومن المثير للاهتمام أن القراءات العالمية للظاهرة تقارنها بالاقتصاد الإقطاعي البائد كما هو الحال في “ذا غارديان”. ويعني ذلك أن استوديوهات الإنتاج تبني الأسوار حول محتواها وتفرض الرسوم على من يرغب بالعبور. والنتيجة هي ندرة مصطنعة في عالم رقمي كان من المفترض أن يمنح البشرية الوفرة. وسواء اعتبرت القرصنة تمرداً أم لا، فإن ذلك لا يهم، لأن كثيرين يغادرون السيستم ككل، كفلاحين في العصور الوسطى يتركون أراضيهم التي يحكمها الإقطاعيون، لبدء مغامرة في البحار التي لا يمتلكها أحد.

استثمار مربح

ولأن كل شيء مرتبط بالاقتصاد ضمن العالم المادي الذي نعيش فيه، فإن مواقع القرصنة نفسها تربح أيضاً، وفيما يبدو أن كثيراً من تلك المواقع اليوم تعمل بسلاسة وكأنها خدمات بث عادية بعكس الخدمات المشبوهة مطل الألفية: لا إعلانات، لا اشتراكات، جودة عالية، وسرعة في التحميل، توجد خلف هذا الهدوء شبكة معقدة من التقنيات والأساليب الاقتصادية التي تجعلها ممكنة ومربحة في الوقت نفسه.

وحتى المواقع التي تبدو “نظيفة” وخالية من الإعلانات تعتمد على طرق متعددة لجني المال، مثل الإعلانات الخفية أو التلقائية التي تعمل في الخلفية وتدفع الأموال بحسب عدد الزيارات، أو الروابط الاحتيالية، أو الاشتراكات المموهة التي تتيح عضوية مقابل مشاهدة المحتوى أولاً مثلاً، أو لمجرد دعم عملية القرصنة للاستمرار عبر التبرعات، وصولاً لبيع بيانات المستخدمين لشركات الإعلانات.

ومن الصعب إيقاف كل تلك الشبكة المعقدة، من ناحية تقنية، حيث تتبدل النطاقات بسرعة، وحتى عند حظر موقع، فإنه يعود الظهور بالاسم نفسه خلال ساعات، فيما يتم الاعتماد على خوادم موزعة: تخزن المقاطع على خدمات متعددة في دول مختلفة، ما يصعب الملاحقة القانونية وغيرها من العوامل التي تجعل ملاحقة ذلك كله مستحيلاً.

[ جديد الخبير ]