كيف تضاعفت موازنة الاقتصاد السعودي وسط التحولات؟

* تطورات عميقة واجهتها الرياض لبناء مركز مالي عالمي وتركيز على قطاعات غير نفطية
كتب غالب درويش:

من أول موازنة رسمية إلى أضخم موازنة في تاريخها، تثبت الرياض قدرتها على مواجهة التحديات العالمية مع استمرار التركيز على تطوير القطاع غير النفطي

…………

من موازنة لا تتجاوز 14 مليون ريال (3.7 مليون دولار) عام 1933، إلى 1.285 تريليون ريال (342.7 مليار دولار) في 2025، تسطر السعودية واحدة من أبرز قصص النمو الاقتصادي عالمياً، لتثبت قدرتها على بناء اقتصاد متوازن ومستدام خلال 92 عاماً من التحولات العميقة.

أعلنت أول موازنة رسمية للسعودية عام 1933، بعد قرار الملك عبدالعزيز بإنشاء وزارة المالية، برئاسة عبدالله بن سليمان كأول وزير للمالية في تاريخ البلاد. وقتها، لم تتجاوز الموازنة 14 مليون ريال (3.7 مليون دولار)، في وقت كانت خلاله مؤسسات الدولة في طور التأسيس، والاقتصاد يعتمد بدرجة كبيرة على الموارد المحدودة قبل انطلاق الطفرة النفطية.
رحلة تضاعف تاريخية

منذ ذلك التاريخ، تضاعفت أرقام الموازنة بوتيرة متسارعة، مدفوعة بعوائد النفط، ثم بالمشاريع التنموية الكبرى، وصولاً إلى الموازنات الضخمة في العقود الأخيرة. واستناداً إلى بيانات وزارة المالية، ارتفع حجم الموازنة بنحو 92 ألف مرة بين 1933 و2025، لتصبح السعودية اليوم أكبر اقتصاد عربي والـ19 عالمياً ضمن مجموعة الـ20.

هذا النمو الهائل يعكس حجم التحولات التي مرت بها الرياض على المستويات كافة، فمن الاعتماد شبه الكامل على عوائد النفط في بدايات النهضة الاقتصادية، إلى التوسع الكبير في المشاريع التنموية والخدمات والبنية التحتية، وصولاً إلى المشاريع العملاقة و”رؤية 2030″، التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستدامة المالية.
التحول غير النفطي

الآن لم يعد النفط وحده هو المحرك الأساس للمالية العامة، ففي الربع الثاني من 2025، سجلت الإيرادات غير النفطية مستوى تاريخياً بلغ 149.9 مليار ريال (40 مليار دولار)، بزيادة 6.6 في المئة، لتشكل نحو نصف الإيرادات العامة، مقارنة بنسبة سبعة في المئة فقط عام 2011، ويعكس هذا التحول نجاح إصلاحات “رؤية 2030” في تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستدامة المالية.

على رغم الإنجازات، تواجه السعودية، مثل بقية الاقتصادات النفطية، ضغوطاً من تقلبات أسعار الطاقة، إذ انخفضت الإيرادات النفطية في الربع الثاني 2025 بنسبة 29 في المئة على أساس سنوي لتبلغ 151.7 مليار ريال (40.5 مليار دولار)، مما أدى إلى تراجع الإيرادات الإجمالية بنسبة 14.7 في المئة، لكن في المقابل، شكلت الإيرادات غير النفطية نقطة مضيئة، عوضت جانباً من الضغوط.
أهداف توسعية

أكد اقتصاديون لـ”اندبندنت عربية”، أن السعودية تواصل نهجها في تحقيق التوازن بين دعم النمو الاقتصادي والحفاظ على الاستدامة المالية على رغم التقلبات الاقتصادية العالمية، في سبيل تعزيز قدرتها على مواجهة التحديات وتحقيق أهداف رؤيتها “2030”.

مسيرة التحول

من جهته، أوضح الكاتب والمحلل المصرفي السعودي طلعت حافظ أن نتائج الموازنات السعودية، منذ صدور أول موازنة لها في عام 1933 حتى وقتنا الحاضر، تعكس استمرار البلاد في مسيرة النمو والتحول الاقتصادي، بما ينسجم بصورة كبيرة وجادة مع أهداف “رؤية 2030″، على رغم التحديات التي تفرضها تقلبات أسعار النفط العالمية، وما ينتج منها من انخفاض في الإيرادات النفطية.

وأشار حافظ إلى أن الأنشطة غير النفطية حققت نمواً ملاحظاً في الاقتصاد، إذ بلغ أثرها الإيجابي نسبة 56 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، مما أسهم في تعويض جزء كبير من تراجع الإيرادات النفطية، وهو ما يعد دليلاً واضحاً على نجاح الرياض في تنويع مصادر الدخل وتعزيز دور هذه الأنشطة، بما في ذلك دور القطاع الخاص.

ولفت إلى أن المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، مثل ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي، وتراجع معدلات البطالة، سواء على مستوى إجمال السكان أم بين السعوديين، إضافة إلى زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل وفي الاقتصاد ككل، جميعها تعكس متانة الاقتصاد غير النفطي.

وأكد حافظ أن العجز المالي لا يزال ضمن المستويات المخطط لها مسبقاً والمحددة، التي تسهم في تلبية متطلبات التنمية المستدامة، وذلك بفضل ما تتمتع به الرياض من احتياطات مالية قوية.

واختتم حافظ حديثه بالتأكيد أن الموازنات العامة تواصل دعمها للإنفاق على الخدمات الأساسية للمواطنين والمقيمين، مع الاستمرار في تحسين جودة الحياة وتطوير الخدمات الحكومية في مجالات التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية، إلى جانب تطوير البنية التحتية في مختلف مناطق السعودية، وتمكين القطاع الخاص ليكون شريكاً فاعلاً في تحقيق التنمية الشاملة.

الإنفاق التوسعي

من جهته قال الرئيس التنفيذي لمركز “التنمية والتطوير” للاستشارات الاقتصادية علي بوخمسين، إن تقديرات المالیة العامة للسنة المالية 2025 جاءت نتيجة تبني الحكومة لسياسات الإنفاق التوسعي الداعم للنمو الاقتصادي في السعودية بھدف التنوع والتركيز على القطاعات الاستراتيجية المسـتدامة، مع الاستمرار في تحقيق المبادرات المتعلقة بـ”رؤية السعودية 2030″.

وأوضح بوخمسين أن نتائج موازنات السعودية منذ إطلاق أول إصدارها إلى الآن تظهر استمرار الرياض في مسيرة التحول الاقتصادي بما يتوافق بصورة جدية بتنفيذ برنامج “رؤية 2030″، على رغم التقلبات العالمية في أسواق النفط وانخفاض الإيرادات في هذا القطاع.

ولفت بوخمسين، إلى أن النمو الملحوظ في الإيرادات غير النفطية عوض جزئياً هذا الانخفاض، وهو ما يثبت نجاح جهود تنويع الاقتصاد وتعزيز دور القطاع الخاص.

وأشار بوخمسين إلى أن المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، كارتفاع الإنفاق الاستهلاكي وانخفاض البطالة، تؤكد متانة الاقتصاد غير النفطي، وأن العجز المالي لا يزال ضمن مستويات مستدامة بفضل الاحتياطات القوية للرياض.

وأوضح أن “الموازنات تؤكد أيضاً استمرار الإنفاق على الخدمات الأساسية للمواطنين و المقیمین، إضافة إلى تعزيز جودة الحياة وتطوير الخدمات الحكومية في مجالات التعليم والصحة، والتنمية الاجتماعية، وكذلك تطوير البنية التحتية في مختلف مناطق السعودية، مع تمكين القطاع الخاص، وتنمية المحتوى المحلي والصناعات الوطنية، وتحفيز البيئة الاستثمارية لتحقيق التنمية الشاملة”.
أهداف توسعية

إلى ذلك قال أستاذ المالية والاستثمار بكلية الاقتصاد في جامعة الإمام محمد بن سعود محمد مكني، إن الموازنات السعودية تستهدف استكمال الأهداف التوسعية في عملية الإنفاق لتنفيذ مشاريع “رؤية 2030″، مشيراً إلى أن هناك مؤشرات إيجابية في ما يخص نمو القطاع غير النفطي خلال الأعوام المقبلة بنسب تقارب أربعة في المئة.

وأكد أن الرياض تركز على القطاع غير النفطي لدعم النمو الاقتصادي في ظل قطعها شوطاً كبيراً في التنوع الاقتصادي ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي الهادف إلى تقليص الاعتماد على النفط.

وأكد مكني أن “زيادة الإنفاق تشير إلى أن السعودية أيضاً تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق مستهدفاتها لاستكمال المشاريع على رغم الموجة التضخمية التي يمر بها العالم وظهور بعض العراقيل الاقتصادية بالدول الكبرى”.

وأشار إلى أن الموازنة الجديدة ستعزز تطلع السعودية إلى استمرارية النمو في الناتج المحلي الإجمالي وفرص مستقبلية للمستثمرين ونمو الأنشطة غير النفطية، لافتاً إلى أن هناك توسعاً في الإنفاق مع اختلاف التركيز على المشاريع المرشحة للإنجاز بصورة أسرع لتصبح رافداً للاقتصاد الوطني، وستمكن المستثمرين محلياً وأجنبياً على حد سواء. ويرى أن البلاد اختارت المسار من العجز بالموازنات الأخيرة لضمان استمرارية إنجاز المشاريع الرئيسة والوفاء بالالتزامات الاجتماعية.
تركيز مكثف

من جهته، عد المتخصص في الشأن الاقتصادي أحمد الجبير أن موازنة السعودية الأخيرة تعكس تركيزاً مكثفاً على المشاريع العملاق والخدمات الاجتماعية التي ستعود إيجاباً على الاقتصاد الوطني في المرحلة المقبلة.

وأكد الجبير أن البلاد تثبت قوة مركزها المالي في مواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، إذ صعدت الإيرادات غير النفطية لمستويات تاريخية مما يؤكد نجاح استراتيجيات تنويع مصادر الدخل.
92 عاماً من البناء

بين أول موازنة متواضعة عام 1933 وموازنة 2025 العملاقة، تسجل السعودية مسيرة تحول مالي واقتصادي غير مسبوقة، واليوم، وهي تحتفل بيومها الوطني الـ95، تواصل الرياض مسيرتها نحو بناء اقتصاد عالمي متنوع، قائم على الاستدامة والقدرة على مواجهة التحديات، مستندة إلى رؤية استراتيجية جعلتها في قلب الاقتصادات الأكثر تأثيراً في الساحة الدولية.

انبدندنت عربية

[ جديد الخبير ]