خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نيويورك، يضع سوريا في مكانة جديدة، ليس بسبب طبيعة التحولات الداخلية التي طرأت عليها بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، وإنما لأنه يقدم سوريا الجديدة من موقعها السياسي المختلف أمام العالم، أي سوريا بواقعيتها، وحاجتها لاستعادة عافيتها، واستنهاض إمكانياتها، وإيجاد مكانة لها بين الدول، من دون أوهام أو شعارات، ومن دون حمولات إقليمية فوق إمكانياتها. وهو أمر يفترض إنه لا يغيب عن الدول العالم، بسبب انفتاح البلاد أمام الكاميرات بعد عقود من الانغلاق والتصحر السياسي.
فأهمية هذه اللحظة تتأتى من كونها المرة الأولى، منذ ستة عقود تقريباً، التي يصعد بها رئيس سوري إلى منبر الأمم المتحدة، ومن كونها تأتي في ظل تحول سوريا من التموضع فيما يسمى المعسكر الشرقي (السوفياتي سابقاً والروسي لاحقاً) و”الممانع”، إلى كونها جزءاً من الاصطفاف مع الدول الغربية، التي باتت تشكل حاضنة لسوريا الجديدة، سواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأميركية، أو تعلق بدول أوروبا الغربية. وهذا تحول جيوسياسي، واستراتيجي، يغير معادلات القوة في الشرق الأوسط.
على ذلك، فإن أكثر شيء يُنتظر من الرئيس السوري هو توضيح تموضع سوريا في المنطقة وفي العالم، ورؤيته لسوريا الجديدة. وهو أمر يهم السوريين قبل أي أحد آخر، كما يهم العالم. خصوصاً أن سوريا ظلت لعقود عديدة بمثابة مكان قلق، بالنسبة له ولدول الإقليم، سيما أن النظام السابق تغطى بشعارات أو ادعاءات كبيرة، فوق قدرات شعبه، في الوحدة والحرية والاشتراكية ومناهضة الامبريالية، والصراع مع إسرائيل، والانضواء في ما يسمى محور المقاومة والممانعة، إلا إنه وظف كل ذلك في المزايدة والتلاعب والمواربة، خصوصاً في تبرير مصادرة الحقوق والحريات واحتكار الموارد والتحكم بها، وتبرير التأخر في التنمية، وحجز التطور السياسي في البلد، في حين كان السوريون يعانون من تدهور الخدمات، وضمنها الصحة والتعليم، والبني التحتية، مع اتساع حدة الفقر والتفاوت بين الطبقات، وانعدام الحياة السياسية تقريباً.
على الصعيد الإقليمي كانت سوريا، سابقا، بمثابة مصدر قلق دائم لجيرانها، بسياساتها وعلاقاتها الإقليمية. حدث هذا للبنان، الذي هيمن عليه النظام السوري، لثلاثة عقود (1976 ـ 2005)، ولم يتركه حتى بعد أن بات لبنان تحت الهيمنة الإيرانية متمثلة بحزب الله. حصل هذا للعراق أيضاً، إذ شكل النظام السوري أحد عوامل الاضطراب وأحد دعامات الوجود الإيراني فيه، وحصل ذلك لتركيا عبر رعاية النظام السوري لحزب عبد الله أوجلان، من دون أن ننسى حالة ابتزاز النظام السوري للدول الخليجية بعلاقته مع إيران. أما بالنسبة لإسرائيل، فظلت هذه تعتبر أنها تعيش في أفضل حالة لها مع الحدود الإسرائيلية ـ السورية. وبديهي، إن كل هذه الأدوار الإقليمية كان لها تأثيرات على الصعيد الدولي. وهي التي أدت إلى عزل سوريا.
الآن، وجود الرئيس الشرع في أكبر مؤسسة تشريعية في العالم، ليس فقط رسالة قبول من العالم له، ولكن هي رسالة قبول سوريا أن تكون جزءاً من عالم متحضر يبعث على الطمأنينة للسوريين وللعالم، إن على الصعيد الداخلي، الذي يتأسس على استعادة السلم الأهلي والأمان لكل السوريين، كمواطنين متساوين. إذ الكلام عن انتهاج سوريا الاقتصاد الحر لا يكفي، لأن الاقتصاد الحر أساساً ينبثق من نظام سياسي حر ومواطنين أحرار. وهذا ينطبق على الكلام عن التحول من الثورة إلى ما بعدها. إذ إن ذلك يتطلب التحول إلى دولة مؤسسات وقانون ومواطنين حقاً.
وهذا الوضع يعني التساوي بين وضع العلاقة مع الخارج وتمتين الوضع الداخلي السوري، أي حماية الشعب بكل مكوناته، وصيانة مصالحه والتجاوب مع حاجاته. لأن هذا هو السبيل لجعل سوريا محصنة إزاء التدخلات والمخاطر الخارجية، وفاعلة في محيطها العربي والإقليمي.