لا تحملوا رفع عقوبات قانون قيصر أكثر من طاقتها.. د ابراهيم محمد : أي نهج اقتصادي لا يقوم على التعددية في ظل دولة قانون سيصل إلى طريق مسدود 

الخبيرالسوري:
كتب الدكتور إبراهيم محمد، الخبير في الشؤون الاقتصادية والسياسية:

من حق السوريين أن يفرحوا لإلغاء العقوبات التي كانت مفروضة بموجب قانون قيصر بغض النظر عن مواقفهم السياسية مما يجري في بلدهم. ويعود السبب في ذلك أن تلك العقوبات ساهمت في تقويض مقومات عيش الناس العاديين أكثر من الضرر الذي تلحقه بالمسؤولين وصناع القرار الذين استهدفهم القانون. غير أن الفرحة والآمال التي يتم تعليقها على تبعات إلغاء القانون مبالغ فيها من وجهة نظري، لإن الإلغاء لا يعني تدفق الاستثمار وإعادة الإعمار بشكل أوتوماتيكي كما يروج كثيرون من صناع قرار وناشطين وصحفيين ورجال أعمال.
يعني الإلغاء قبل كل شيء إعادة ربط البنوك والشركات والمؤسسات السورية بالشبكة المالية العالمية عن طريق نظام سويفت بشكل يساعدها على الوفاء بالتزاماتها والحصول على حقوقها وتطوير منتجاتها وخدماتها. كما يمثل خطوة جوهرية في مسعى الإفراج عن الأموال السورية المجمدة في الخارج بسبب العقوبات. وهو أمر سيساعد على تحسن ولكن بشكل محدود في الوضع الاقتصادي الحالي الذي يشهد تارة بعض التحسن لقسم من السوريين وتارة أخرى المزيد من التراجع لقسم كبير آخر لأسباب لا تقتصر على ضعف الموارد والإيرادات.
والمقصود بالأسباب الأخرى تلك المتعلقة بتسريح عشرات الآلاف من وظائفهم وحرمانهم من رواتبهم وتقاعدهم دون بدائل وشبكات أمان اجتماعي تضمن لهم الحد الأدنى من توفير لقمة العيش. ويزيد الطين بلة استمرار منظومة الفساد والمحسوبيات وضعف الشفافية في ظل استمرار تحكم قلة بالقسم الأكبر من الموارد التي ما تزال متاحة.
إن إعادة ربط سوريا بالشبكة المالية العالمية سيسهل الكثير من الأعمال التجارية والخدمية وخاصة على الصعيد الفردي والصغير، لأن تدفق الاستثمارات الكبيرة في مجالات معينة وحساسة كالبنى التحتية والصناعات الكبيرة سوف يخضع لآليات مراقبة أمريكية بشكل أو بآخر. وحتى لو تدفقت هذه الاستثمارات فإنها لن تأتي للمساهمة في الاستثمار وإعادة الإعمار بشكل أوتوماتيكي. فمثل هذه المساهمة تتطلب جملة شروط في مقدمتها استقرار الوضع الأمني والبدء بتحول سياسي ينتج عنه حكومة وأحزب سياسية تعكس إرادة أكثرية السوريين وطموحاتهم ومكوناتهم بمختلف طوائفهم وأطيافهم.
ومن جملة ما يعنيه ذلك أن أي نهج اقتصادي لا يقوم على التعددية في ظل دولة قانون ونظم تشريعية ورقابية وتنفيذية سيصل إلى طريق مسدود عاجلا أم آجلا. ولعل خير مثال على ذلك التجربة السورية على مدى الستين سنة الماضية. فقد أظهرت هذه التجربة أن أي نهج لا يُشرك ممثلي مختلف الفعاليات الاقتصادية والسياسية المعنية في اتخاذ القرار يقود إلى الفشل وانعدام الاستقرار الاجتماعي واندلاع حروب وخراب ونزاعات لا نهاية لها. وقد مرت كذلك تجارب مصر والعراق وتونس وليبيا ودول أخرى بتجارب مرة وخيبات عديدة على هذا الصعيد.
وعلى ذكر النهج الاقتصادي لسوريا المستقبل فإن الأفكار التي يتم طرحها والنقاش فيها من قبل صحافيين ومسؤولين وناشطين منذ سقوط نظام الأسد غير المأسوف عليه تثير العجب. فتارة يقول بعضهم أنهم سيجعلون من سوريا سنغافورة جديدة ليرد آخرون بالقول إن سوريا ستكون سويسرا الشرق أو ماليزيا. ووسط هذه الجدل تظهر أصوات تطالب حتى بالاستفادة من التجربة الأفغانية وغير ذلك من الطروحات المتناقضة.
وردا على ذلك لا بد من القول إن سوريا ستبقى سوريا ولا يمكن أن تكون سنغافورة أو سويسرا. فهوية سوريا الاقتصادية عريقة ومختلفة ويجب ان يتم الحفاظ على طابعها من خلال البناء عليها، فهذه الهوية عريقة عراقة أنسجتها وأقمشتها التي لبسها ملوك العالم منذ مئات السنين، وهي قديمة قدم معاول ومناول آهلها الذي زرعوا وأبدعوا في حرفهم على مستوى العالم منذ آلاف السنين. وعليه فإننا بحاجة إلى تنمية على مقاس بلدنا، والمقصود تنمية لا تقوم على بناء أبراج سكنية ومكتبية تشوه منظر قاسيون وقلعة حلب وأوغاريت وأحياء مدننا الأخرى، بل إلى تنمية تخلق فرص عمل لشبابنا وتعيد إحياء منتجاتنا السورية من أنسجة وألبسة وأغذية ومنتجات حرفية بشكل عصري. وينبغي أن يتم ذلك بالتوازي مع فسح المجال لشباب سوريا المبادر والمبدع من أجل النهوض بقطاعات جديدة في مجالات الهندسة والمعلوماتية والطاقات البديلة والرقمنة وغيرها.
إن المراهنة على الشراكات مع الشركات العالمية الكبيرة مهم لإعادة بناء وتحديث البنية التحتية، غير أن ذلك لا ينبغي أن يتم في إطار احتكاري بعيد عن الشفافية يسمح لها بفرض الأسعار التي تريدها بشكل يفرمل انطلاق المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي ينبغي أن تشكل العمود الفقري لأي تنمية سورية فعلية ومستدامة. فبدون هذه المشاريع لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار وإحياء الاقتصاد وتشكيل طبقة وسطى تعيد التوازن والسلام إلى المجتمع السوري الذي تحول أكثر من 90 بالمائة منه إلى فقراء بسبب الحروب والدمار. في هذا السياق أختم بالقول إن اقتصاد الطبقة الوسطى في ألمانيا يشكل العمود الفقري لاقتصاد البلاد وهو الذي يشغل نحو 55 بالمائة من الأيدي العاملة.

*إبراهيم محمد أكاديمي وكاتب صحفي عمل في جامعة تشرين/ اللاذقية قبل أن ينتقل إلى برلين للعمل في غرفة التجارة العربية الألمانية ومع جريدة الحياة اللندنية. كما عمل في مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية الألمانية/ DW وتولى إدارة موقعها الإلكتروني باللغة العربية

[ جديد الخبير ]