سوريا من مرحلة القيود إلى بوابة التعافي

الخبير السوري ـ وديع الشماس:

يُعدّ إلغاء قانون قيصر نقطة تحول مفصلية في المسار المالي والاقتصادي لسورية، بعد سنوات من العزلة المصرفية والتجارية التي كبّلت حركة الأموال، ورفعت تكاليف العمليات الاقتصادية، وحدّت من فعالية السياسات النقدية. ومع خروج هذا القانون من المعادلة، تدخل سورية مرحلة جديدة تحمل فرصًا اقتصادية واعدة، لكنها تتطلب استعدادًا مؤسسيًا سريعًا وقرارات نقدية واقتصادية قادرة على تحويل الانفراج القانوني إلى مكاسب حقيقية على الأرض.

أولًا: الاقتصاد السوري… بداية خروج تدريجي من عنق الزجاجة

1. عودة الحركة التجارية وانخفاض تكاليف الاستيراد

أحد أبرز آثار إلغاء العقوبات يتمثل في إزالة أكبر العوائق أمام التبادل التجاري. فالعمليات التي كانت تمر بقنوات التفافية باهظة التكلفة يمكن اليوم أن تتم عبر قنوات رسمية أقل تكلفة وأكثر شفافية. وهذا سينعكس على:

– انخفاض تكاليف استيراد المواد الأولية والسلع الأساسية.
– تحسن القدرة الإنتاجية للقطاعات الصناعية والزراعية.
– تقليل فجوات العرض التي كانت تغذي التضخم.

2. تحسن تدفقات النقد الأجنبي

كانت التحويلات من الخارج شريانًا أساسيًا للاقتصاد، إلا أن جزءًا كبيرًا منها كان يسلك طرقًا غير نظامية. ومع إلغاء قانون قيصر، يصبح الجهاز المصرفي قادرًا على استقطاب جزء كبير من هذه التدفقات، الأمر الذي يسهّل:

– زيادة المعروض من القطع الأجنبي.
– تقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي.
– تخفيف التوترات في سوق الصرف.

3. تحسن بيئة الأعمال وثقة المستثمرين

يرسل إلغاء القانون إشارة إيجابية للفاعلين الاقتصاديين، المحليين والخارجيين على حد سواء. إذ تصبح سورية:

– أكثر قدرة على جذب استثمارات إنتاجية مباشرة.
– أكثر إغراءً للقطاع الخاص في التوسع والنمو.
– أكثر استعدادًا للدخول في شراكات اقتصادية مع مؤسسات إقليمية ودولية.

هذه الثقة الجديدة تشكّل محركًا أساسيًا لأي تعافٍ اقتصادي، خاصة في مرحلة إعادة الإعمار.

ثانيًا: أثر إلغاء قانون قيصر على القطاع المصرفي… عودة الوظيفة المالية الكاملة

1. إعادة فتح القنوات المصرفية الدولية

كان القطاع المصرفي أكبر المتضررين من القيود السابقة، ومع إلغاء القانون، تبدأ المصارف السورية استعادة روابطها بالبنوك المراسلة العالمية. هذا التطور يعني عمليًا:

– قدرة المصارف على تنفيذ حوالات خارجية مباشرة.
– استعادة دورها في تمويل التجارة الخارجية.
– خفض تكاليف العمليات المصرفية للتجار والصناعيين.

هذا الربط الدولي يعيد للمصارف السورية وظيفتها الأساسية، بعد سنوات من العمل عبر أدوات محدودة ومكلفة.

2. ارتفاع مستوى الاحتياطيات وقدرة المصرف المركزي على التدخل

التدفقات الجديدة من التحويلات والتجارة ستُترجم مباشرة في ميزانيات المصرف المركزي، مما يمنحه:

– قدرة أكبر على التدخل في سوق الصرف.
– أدوات أقوى لضبط السياسة النقدية.
– هامشًا أوسع لتطبيق سياسات استقرار سعري فعّالة.

هذا التحسن في القدرة النقدية يفتح الباب لتقليل السياسات الاستثنائية التي فُرضت سابقًا بحكم الضرورة.

3. تخفيف الحاجة إلى سياسة حبس السيولة

كانت سياسة حبس السيولة واحدة من الأدوات التي لجأت إليها السلطات النقدية لضبط الطلب على الدولار وتقليل التضخم، لكنها حملت تكلفة اجتماعية عالية. ومع تدفّق سيولة أكبر عبر القنوات الرسمية، يصبح بالإمكان:

– تخفيف قيود السحب النقدي تدريجيًا.
– إعادة التوازن بين السيولة المتداولة واحتياجات السوق.
– تحسين الثقة بالقطاع المصرفي لدى المواطنين.

المرحلة الجديدة تمنح المصارف قدرة أعلى على تلبية طلبات السحب دون خوف من ضغط مفاجئ على السيولة أو القطع الأجنبي.

4. إطلاق منتجات مصرفية كانت مجمدة

بمجرد استعادة الروابط المصرفية الدولية، يمكن للمصارف السورية تقديم خدمات جديدة تشمل:

– بطاقات دفع دولية.
– حسابات مراسلة مشتركة.
– أدوات تمويل للتجارة والمشاريع.
– خدمات إلكترونية أكثر تطورًا.

هذه المنتجات تُعيد للقطاع المصرفي جاذبيته وتساعد على تحديث البنية المصرفية بما يتوافق مع المعايير الدولية.

5. دعم عملية إعادة الإعمار

القطاع المصرفي سيكون جزءًا رئيسيًا من تمويل:

– مشاريع البنية التحتية.
– البرامج الإنتاجية.
– الاستثمارات في الطاقة والصناعة.

وبالتعاون مع مؤسسات مالية خارجية، يصبح تمويل المشاريع الكبرى أكثر واقعية ومرونة.

ثالثًا: سورية أمام مرحلة جديدة… فرص واختبارات

إلغاء قانون قيصر يفتح الباب أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء الاقتصاد، لكن حجم الفائدة يرتبط بقدرة المؤسسات المالية والاقتصادية على مواكبة هذه المرحلة. فالتعافي لن يتحقق تلقائيًا، بل يحتاج إلى:

– إصلاحات مصرفية وتشريعية واضحة.
– تعزيز الحوكمة والمساءلة.
– تطوير البنية المالية وأنظمة الدفع الإلكتروني.
– سياسة نقدية أكثر مرونة وانضباطًا.

الفرصة متاحة، لكن النجاح مشروط بالتنفيذ.

خلاصة تحليلية

إن إلغاء قانون قيصر ليس مجرد رفع لعقوبات، بل تحول اقتصادي استراتيجي يعيد لسورية جزءًا مهمًا من قدرتها على الحركة المالية والتجارية. فعلى مستوى الاقتصاد الكلي، ينعكس القرار بتحسن تدفق السلع ورأس المال وزيادة الثقة الاستثمارية. وعلى مستوى القطاع المصرفي، يفتح الإلغاء الباب أمام إعادة الاندماج المالي عالميًا، ويدعم قدرة المصارف على أداء دورها الحقيقي، ويقلل الحاجة إلى السياسات الاستثنائية مثل حبس السيولة.

إن الطريق لا يزال طويلاً، لكن إزالة العقبات الأكبر يتيح بداية جديدة أكثر مرونة وفاعلية، ويمنح الاقتصاد السوري فرصة للخروج من مرحلة الصمود إلى مرحلة التعافي المدروس، وصولًا إلى استقرار اقتصادي ومالي مستدام.

[ جديد الخبير ]