في العام 2002، وجدت نفسي مضطرة للإقامة في غرفة صغيرة بحي المزة 86 – خزان، برفقة صديقة سورية قادمة من الساحل. كنا نستقل حافلة (سرفيس) مكتظة من تحت جسر الحرية حالياً، تمر بنا على محل “فلافل على كيفك” الشهير قبل أن ننحدر باتجاه قصر مترامي الأطراف. أشارت لي صديقتي قائلة: “هذا قصر ذو الهمة شاليش”، ابن عم عائلة الأسد ورئيس الأمن الرئاسي. لم تكن تفصل أسوار القصر الفاخرة عن أحياء العشوائيات سوى بضع مئات من الأمتار.
سرعان ما تبدل المشهد العمراني. من مساحة القصر المترامية الأطراف، انتقلنا إلى واقع آخر؛ بنايات عشوائية متراصة، أسلاك كهربائية متشابكة، وأطفال حفاة يركضون في طريق طيني يزداد وعورة. في نهاية المطاف، وصلنا إلى غايتنا: غرفة إسمنتية مخالفة، تضم حماماً صغيراً وكهرباء مسروقة. للوصول إليها، كان عليّ أن أخوض في الوحل الذي لوثني قبل أن أطأ عتبتها.
كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها هذا العالم؛ عالم ظل بعيد عن دمشق الرسمية، لكنه جزء لا يتجزأ منها. من شرفة الغرفة، كنت أرى قلب العاصمة بوضوح: أوتوستراد المزة، ومزة فيلات، وبيوتها الفخمة وحدائقها الغناء. في المقابل، كنا نحن عالقين في الطين. هناك، نشأ جدار غير مرئي بين دمشق الغنية ودمشق المهمّشة. لم أحتمل مرارة التجربة طويلاً وغادرت.
بعد عقد من الزمان، عدت إلى حي آخر أكثر شهرة: المزة 86 ــ مدرسة، هذه المرة بصفتي صحفية أعمل على فيلم وثائقي عن المطرب الراحل فؤاد غازي. كان المطرب قد أصيب بسرطان الحنجرة، وأجبرته الظروف المعيشية على الإقامة في غرفة عشوائية بالحي بسبب شدة الفقر. استقبلني بصوت مبحوح: “حياتي تشبه هذه العشوائيات… نهشها النظام كما نهش السرطان حنجرتي”.
كانت شهادته صادمة ومكثفة. مطرب غنى للريف والوطن، يعيش في غرفة مخالفة بلا علاج، في حين على بعد أمتار قليلة يقف قصر ابن عم الرئيس. إنها صورة دامغة عن مفارقة العمران والسياسة في سوريا؛ أحياء كاملة تعيش في البؤس، بجوار قصور السلطة.
نفوذ شاليش
لم يكن حي المزة 86 مجرد منطقة سكنية عشوائية عادية؛ بل كان نموذجاً معقداً لتشابك العمران مع السلطة والفساد في سوريا. ففي سبعينيات القرن الماضي، نشأت النواة الأولى للحي بتوجيه من رفعت الأسد، قائد سرايا الدفاع وشقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي سمح لعناصر “اللواء 86” ببناء مساكن على أراضٍ زراعية وحرجية في منطقة المزة. بمرور الوقت، استقدمت عائلات من الساحل السوري وريف حمص وحماة، مما حول الحي إلى جيب طائفي واضح في قلب العاصمة.
لاحقاً، أكمل ذو الهمة شاليش، ابن عم آل الأسد ورئيس الأمن الرئاسي، ما بدأه رفعت. استغل شاليش، الذي وُصف بأنه “خزانة أسرار آل الأسد”، موقعه الأمني لتوسيع نفوذه الاقتصادي في قطاع العقارات. وحصل على عقود ضخمة، وحمى عمليات البناء المخالف في الحي، مما جعله يُدار بغطاء أمني مباشر، بعيداً عن رقابة البلدية أو أي تطبيق للقانون… إذ لا يمكن الحديث عن العشوائيات من دون الحديث عن شخصيات نافذة تقف ورائها، فخلف هذه الأبنية المتراصة والفوضى العمرانية، كانت هناك شخصيات نافذة تدير اللعبة بصمت.
في دمشق، كانت العشوائيات تُعامل بوصفها ملفاً أمنياً قبل أن تكون ملفاً عمرانياً. تركت الدولة البناء المخالف يتمدد، لكنها ضبطته عبر شبكة من الولاءات، حيث كان ذو الهمة شاليش مسؤولاً عن حماية المزة 86 من أي تدخل بلدي أو قانوني. فبمجرد كلمة من الأمن الرئاسي، يُمنع أي قرار بهدم الأبنية المخالفة.
ومع الوقت، تحولت هذه الأحياء إلى خزانات بشرية لأجهزة الأمن. فشبابها وجدوا في الانخراط في صفوف الجيش والمخابرات وسيلة للعيش ومحاربة الفقر والبطالة، في المقابل، استُغلّوا سياسياً واقتصادياً. أصبح الحصول على منزل في هذه المناطق يتطلب المرور عبر وسطاء مرتبطين بالأجهزة الأمنية.
لم تقتصر القضية على الحماية الأمنية؛ بل تحولت العشوائيات إلى سوق عقاري مربح. حيث بُنيت على أراضٍ عامة أو زراعية من دون سندات ملكية، ثم بيعت عبر عقود عرفية.
عملت شبكات مقربة من عائلة شاليش على شرعنة بعض هذه العمليات أو منحها غطاءً، مما أجبر العديد من المستثمرين على الدخول في شراكات مع أقارب ذوي نفوذ. في حالات عديدة، كان يُباع المنزل المخالف لأكثر من شخص، في عملية فساد متعمدة امتزج فيها المال بالسلطة، والتهديد القانوني بالحماية الأمنية.
خط دفاع
لم ينظر النظام السوري إلى حي المزة 86 وغيره من الأحياء العشوائية بوصفها جزءاً من أزمة الفقر؛ بل بوصفها “خطوطَ دفاع” استراتيجية عن العاصمة. فبفضل موقعه المطل على قصر الشعب، تحول الحي بالكامل إلى حواجز بشرية من شأنها صد أية انتفاضة محتملة.
خلال سنوات الثورة، استخدمت السلطة هذه الأحياء أداةً، حيث سُلّحت على نحوٍ غير مباشر. خرجت منها ميليشيات موالية للنظام، وفي المقابل، أصبحت أهدافاً لقذائف الهاون والانفجارات. فتحولت إلى ما يمكن تسميته بـ”المناطق الرمادية” على خريطة دمشق: لا تنتمي بالكامل إلى المدينة ولا تُعامل كقرىً؛ بل أصبحت أشبه بمعسكرات.
وعلى الرغم من ارتباطها الوثيق بالسلطة، لم ينعم حي المزة 86 بأية امتيازات. فقد بقيت بنيته التحتية متدهورة؛ بيوت متلاصقة تفتقر للتهوية، وشوارع ضيقة، واعتماد على الكهرباء المسروقة، وتمديدات مياه غير نظامية. كان أي زلزال أو انزلاق أرضي كفيلاً بإسقاط نصف الحي.
وعلى الصعيد الاجتماعي، كان المشهد قاتماً. تميز الحي بأسواق ضيقة ومكتظة، ومدارس قليلة، مما يدفع الأطفال لترك الدراسة والتوجه للعمل. كانت نسبة البطالة عالية، وتتركز فرص العمل المتاحة في الأجهزة الأمنية والجيش. فبرغم الصورة التي ربطت الحي بالامتيازات الأمنية، إلا أن الواقع الاقتصادي كان مختلفاً. دخل الفرد متدنٍ بالمقارنة مع جواره في المزة.
هذا الفقر دفع كثيرين للعمل في التجارة غير الرسمية: محروقات، تهريب بضائع، وأحياناً تجارة المخدرات. في التسعينيات والألفية، صار الحي معروفاً بوصفه مصدر للمواد الممنوعة، بعلم الأجهزة الأمنية أو بتغاضيها.
المخيال الدمشقي
في أذهان سكان دمشق، ارتبط حي المزة 86 بسمعة من الخشونة والعنف، مما جعل الكثيرين يتجنبون دخوله. ومع ذلك، كان هناك اعتراف ضمني بأنه حي “لا يُمس”، وهي مكانة أمنية صنعت عزلة مزدوجة: حي يخشاه الناس، وسكان يعيشون في هوامش العاصمة.
اليوم، ومع انهيار النظام، يعود ملف المزة 86 إلى الواجهة. فالوقت كفيل بكشف حقائق مرة: أن الحي بُني بالكامل على أراضٍ استُولي عليها من أسر دمشقية عريقة وأوقاف. وفي حين تفرض العدالة إعادة الحقوق لأصحابها، يفرض السلم الأهلي حذراً بالغاً؛ فإخلاء عشرات الآلاف من السكان الذين عاشوا هنا لعقود سيولد انفجاراً اجتماعياً حتمياً، في حين أن التغاضي عن حقوق المالكين يمثل ظلماً آخر.
الحل الوحيد لهذه المعضلة يكمن في المسار القضائي؛ وهو نهج بطيء ولكنه ضروري. يتطلب هذا المسار دراسة كل حالة على حدة، والبحث عن آليات لتعويض المالكين الأصليين، وتوفير حلول سكنية بديلة للسكان الحاليين. إن هذا الطريق هو الذي يمنع الصراع، ويؤسس لعدالة انتقالية حقيقية في سوريا.
إن حي المزة 86 ليس مجرد حي؛ بل هو قصة نصف قرن من حكم الأسد. إنه تجسيد حي لسياسات قائمة على مصادرة الأراضي، وتسليح العشوائيات، وتقديم الأمن على القانون، والولاء على المواطنة. وفي الوقت نفسه، هو موطن لعشرات الآلاف من السوريين الذين ولدوا فيه وعاشوا حياتهم على هامش المدينة. إن كيفية التعامل مع هذا الإرث اليوم هو اختبار لسوريا الجديدة: هل ستُبنى على الانتقام، أم على العدالة والسلم الأهلي؟
تقع المنطقة على أطراف دمشق الجنوبية الغربية، متداخلة مع أحياء مثل مزة فيلات وغرب أوتوستراد المزة وحي الشيخ سعد.