تجري التطورات مخالفة لتوقعات الصناعيين وبما “لاتشتهي سفنهم”.. فقد شهدت الأسواق السورية تدفقاً واسعاً للبضائع الأجنبية، مدفوعة بقرارات حكومية خفّضت الرسوم الجمركية وسهّلت إجراءات الاستيراد، ما أدى إلى تراجع ملحوظ في الإقبال على المنتجات الوطنية.
ورغم أن جزءاً كبيراً من هذه السلع المستوردة يوصف بأنه منخفض الجودة، إلا أن المستهلك السوري انجذب إليها بفعل أسعارها المنخفضة وتوافرها في الأسواق، وهو ما شكّل ضغطاً إضافياً على الصناعات المحلية التي تعاني أصلاً من آثار الحرب وضعف الدعم الرسمي.
سياسات تجارية تفتح السوق أمام المنافس الأجنبي
أعلنت الحكومة السورية مطلع العام الجاري عن سلسلة إجراءات تضمنت خفض الرسوم الجمركية بنسبة تجاوزت 50% لبعض البنود، وتقليص مدة التخليص الجمركي إلى أيام معدودة.. هذه السياسات أدت إلى دخول كميات كبيرة من السلع الأجنبية إلى الأسواق، من بينها الألبسة والأحذية والمواد الغذائية ومستحضرات التجميل، ما فرض واقعاً جديداً من المنافسة غير المتكافئة.
في مدينة حلب، خرج عدد من أصحاب ورش صناعة الأحذية في احتجاجات مطلع آب الجاري، مطالبين برفع الرسوم الجمركية على البضائع الصينية التي وصفوها بأنها تغرق السوق وتدفع الورش المحلية نحو الإغلاق.
وأشار المحتجون إلى أن نحو 5000 ورشة بدأت بتسريح عمالها نتيجة تراجع الطلب على المنتج المحلي.
ورغم هذه المطالب، أعلنت وزارة الاقتصاد والصناعة السورية في 17 آب استمرار السماح باستيراد الأحذية والملابس الجلدية، وهو قرار اعتبره الصناعيون تجاهلاً لمطالبهم.
تخفيضات محلية لمواجهة المنافسة الأجنبية
في دمشق، لجأت محال الألبسة إلى تقديم تخفيضات واسعة لتصريف البضائع المحلية بعد انخفاض الطلب، في حين ارتفع الإقبال على المنتجات المستوردة الأرخص سعراً. وقالت إحدى المستهلكات إنها تفضل شراء الألبسة التركية بسبب توفرها وسعرها المناسب، رغم إدراكها أن جودتها أقل من المنتج المحلي.
أحد تجار الألبسة في سوق الحميدية بدمشق أشار إلى أنه اضطر لتقليص هامش الربح وتقديم عروض لجذب الزبائن، مؤكداً أن المستهلك بات يفضّل السعر على الجودة.
الوضع لم يقتصر على قطاع الألبسة، بل امتد إلى مستحضرات التجميل، حيث بدأ عدد من التجار في سوق الجملة باستبدال المنتجات الوطنية بالمستوردة الصينية نتيجة ارتفاع الطلب عليها.
وأوضح صاحب إحدى العلامات التجارية المحلية أن شركته تكبّدت خسائر كبيرة بعد توقف معظم تجار الجملة عن التعامل معها، لكنه يحاول استعادة مكانته عبر حملات إعلانية وتخفيضات في الأسعار.
فجوة سعرية تهدد الصناعة المحلية
الفارق الكبير في الأسعار بين المنتج المحلي والمستورد يفسّر جانباً من التحول في سلوك المستهلك.. ففي قطاع مستحضرات التجميل، يتراوح سعر سيروم الوجه المستورد بين 18 و25 ألف ليرة سورية، بينما يبلغ سعر المنتج المحلي من الفئة ذاتها بين 35 و45 ألفاً. أما في قطاع الألبسة، فيصل سعر البنطلون الوطني إلى 300 أو حتى 400 ألف ليرة، في حين لا يتجاوز سعر البنطلون التركي المستورد 100 ألف ليرة.
ورغم أن بعض المستهلكين يرون في البضائع المستوردة خياراً اقتصادياً في ظل الغلاء، يحذر الصناعيون من أن استمرار هذا الاتجاه يهدد بانهيار قطاعات إنتاجية كاملة، خصوصاً تلك التي تعتمد على كثافة العمالة مثل الألبسة والأحذية ومستحضرات التجميل.
مستقبل الصناعة الوطنية في مهب الريح
تبدو الأسواق السورية اليوم أكثر تنوعاً من حيث المعروض، وأسعارها أقل نسبياً، لكن هذا الواقع يخفي تهديداً طويل الأمد يتمثل في تراجع الصناعة الوطنية وفقدان فرص العمل. وبينما يستمر الجدل بين حماية المستهلك وحماية المنتج المحلي، تبقى الصناعة السورية في مواجهة خطر التآكل قبل أن تتاح لها فرصة التعافي.